كتاب الموسوعة الفقهية الكويتية (اسم الجزء: 32)

وَقَال ابْنُ الْقَيِّمِ: فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ آخَرُ، أَنَّهُ يُخَرَّجُ حُكْمُهَا عَلَى الْخِلاَفِ فِي مَسْأَلَةِ تَعَارُضِ الأَْدِلَّةِ، وَفِيهَا الأَْقْوَال: أَنَّهُ يَأْخُذُ بِالأَْشَدِّ، أَوْ بِالأَْخَفِّ، أَوْ يَتَخَيَّرُ. ثُمَّ قَال: وَالصَّوَابُ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَرَّى الْحَقَّ بِجَهْدِهِ وَمَعْرِفَةِ مِثْلِهِ وَيَتَّقِيَ اللَّهَ، قَال: وَقَدْ نَصَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْحَقِّ أَمَارَاتٍ كَثِيرَةً، وَلَمْ يُسَوِّ بَيْنَ مَا يُحِبُّهُ وَمَا يَسْخَطُهُ مِنْ كُل وَجْهٍ، بِحَيْثُ لاَ يَتَمَيَّزُ هَذَا مِنْ هَذَا، وَالْفِطَرُ السَّلِيمَةُ تَمِيل إِلَى الْحَقِّ وَتُؤْثِرُهُ، فَإِنْ قُدِّرَ ارْتِفَاعُ ذَلِكَ كُلِّهِ يَسْقُطُ عَنْهُ التَّكْلِيفُ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ وَإِنْ كَانَ مُكَلَّفًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهَا. (1)

مَعْرِفَةُ الْمُسْتَفْتِي حَال مَنْ يَسْتَفْتِيهِ:
43 - يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَفْتِي إِنْ وَقَعَتْ لَهُ حَادِثَةٌ أَنْ يَسْأَل مُتَّصِفًا بِالْعِلْمِ وَالْعَدَالَةِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ الْكَمَال بْنِ الْهُمَامِ: الاِتِّفَاقُ عَلَى حِل اسْتِفْتَاءِ مَنْ عُرِفَ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ بِالاِجْتِهَادِ وَالْعَدَالَةِ، أَوْ رَآهُ مُنْتَصِبًا وَالنَّاسُ يَسْتَفْتُونَهُ مُعَظِّمِينَ لَهُ، وَعَلَى امْتِنَاعِهِ مِنَ الاِسْتِفْتَاءِ إِنْ ظَنَّ عَدَمَ أَحَدِهِمَا أَيْ عَدَمَ الاِجْتِهَادِ أَوِ الْعَدَالَةِ. (2)
وَقَال النَّوَوِيُّ: يَسْأَل الْمُسْتَفْتِي مَنْ عَرَفَ عِلْمَهُ وَعَدَالَتَهُ، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفِ الْعِلْمَ بَحَثَ عَنْهُ
__________
(1) إعلام الموقعين 4 / 219.
(2) رد المحتار 4 / 301.
بِسُؤَال النَّاسِ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفِ الْعَدَالَةَ فَقَدْ ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ فِيهِ احْتِمَالَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْحُكْمَ كَذَلِكَ، وَأَشْبَهُهُمَا: الاِكْتِفَاءُ، لأَِنَّ الْغَالِبَ مِنْ حَال الْعُلَمَاءِ الْعَدَالَةُ، بِخِلاَفِ الْبَحْثِ عَنِ الْعِلْمِ فَلَيْسَ الْغَالِبُ مِنَ النَّاسِ الْعِلْمَ. (1)
وَقَال النَّوَوِيُّ: يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَفْتِي قَطْعًا الْبَحْثُ الَّذِي يَعْرِفُ بِهِ أَهْلِيَّةَ مَنْ يَسْتَفْتِيهِ لِلإِْفْتَاءِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَارِفًا بِأَهْلِيَّتِهِ، فَلاَ يَجُوزُ لَهُ اسْتِفْتَاءُ مَنِ انْتَسَبَ إِلَى الْعِلْمِ، وَانْتَصَبَ لِلتَّدْرِيسِ وَالإِْقْرَاءِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَنَاصِبِ الْعُلَمَاءِ بِمُجَرَّدِ انْتِسَابِهِ وَانْتِصَابِهِ لِذَلِكَ، وَيَجُوزُ اسْتِفْتَاءُ مَنِ اسْتَفَاضَ كَوْنُهُ أَهْلاً لِلْفَتْوَى، وَقَال بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ: إِنَّمَا يُعْتَمَدُ قَوْلُهُ: أَنَا أَهْلٌ لِلْفَتْوَى، لاَ شُهْرَتُهُ بِذَلِكَ، وَلاَ يُكْتَفَى بِالاِسْتِفَاضَةِ وَلاَ بِالتَّوَاتُرِ، وَالصَّحِيحُ هُوَ الأَْوَّل. (2)

تَخَيُّرُ الْمُسْتَفْتِي مَنْ يُفْتِيهِ:
44 - إِنْ وَجَدَ الْمُسْتَفْتِي أَكْثَرَ مِنْ عَالِمٍ، وَكُلُّهُمْ عَدْلٌ وَأَهْلٌ لِلْفُتْيَا، فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْمُسْتَفْتِيَ بِالْخِيَارِ بَيْنَهُمْ يَسْأَل مِنْهُمْ مَنْ يَشَاءُ وَيَعْمَل بِقَوْلِهِ، وَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي أَعْيَانِهِمْ لِيَعْلَمَ أَفْضَلَهُمْ عِلْمًا فَيَسْأَلَهُ، بَل
__________
(1) روضة الطالبين 11 / 103.
(2) المجموع 1 / 54.

الصفحة 47