كتاب الموسوعة الفقهية الكويتية (اسم الجزء: 33)
وَحَدِيثُ: الْقُضَاةُ ثَلاَثَةٌ: قَاضِيَانِ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ، رَجُلٌ قَضَى بِغَيْرِ الْحَقِّ فَعَلِمَ ذَاكَ فَذَاكَ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ لاَ يَعْلَمُ فَأَهْلَكَ حُقُوقَ النَّاسِ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ قَضَى بِالْحَقِّ فَذَلِكَ فِي الْجَنَّةِ. (1)
وَيَرَى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ كُل مَا جَاءَ مِنَ الأَْحَادِيثِ الَّتِي فِيهَا تَخْوِيفٌ وَوَعِيدٌ إِنَّمَا هِيَ فِي حَقِّ قُضَاةِ الْجَوْرِ وَالْجُهَّال الَّذِينَ يُدْخِلُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي هَذَا الْمَنْصِبِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ وَلِيَ الْقَضَاءَ فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ فَقَدْ قَال بَعْضُ أَهْل الْعِلْمِ: هَذَا الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى شَرَفِ الْقَضَاءِ وَعَظِيمِ مَنْزِلَتِهِ وَأَنَّ الْمُتَوَلِّيَ لَهُ مُجَاهِدٌ لِنَفْسِهِ وَهَوَاهُ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى فَضِيلَةِ مَنْ قَضَى بِالْحَقِّ إِذْ جَعَلَهُ ذَبِيحَ الْحَقِّ امْتِحَانًا، لِتَعْظُمَ لَهُ الْمَثُوبَةُ امْتِنَانًا، فَالْقَاضِي لَمَّا اسْتَسْلَمَ لِحُكْمِ اللَّهِ وَصَبَرَ عَلَى مُخَالَفَةِ الأَْقَارِبِ وَالأَْبَاعِدِ فِي خُصُومَاتِهِمْ، فَلَمْ تَأْخُذْهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لاَئِمٍ حَتَّى قَادَهُمْ إِلَى أَمْرِ الْحَقِّ وَكَلِمَةِ الْعَدْل، وَكَفَّهُمْ عَنْ دَوَاعِي الْهَوَى وَالْعِنَادِ، جُعِل ذَبِيحَ الْحَقِّ لِلَّهِ وَبَلَغَ بِهِ حَال الشُّهَدَاءِ الَّذِينَ لَهُمُ الْجَنَّةُ، فَالتَّحْذِيرُ الْوَارِدُ مِنَ الشَّرْعِ إِنَّمَا هُوَ عَنِ الظُّلْمِ لاَ عَنِ الْقَضَاءِ،
__________
(1) حديث: " القضاة ثلاثة. . " أخرجه الترمذي (3 / 604) والحاكم (904) من حديث بريدة، واللفظ للترمذي وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
فَإِنَّ الْجَوْرَ فِي الأَْحْكَامِ وَاتِّبَاعَ الْهَوَى فِيهِ مِنْ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ وَأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} (1) ، فَالأَْحَادِيثُ السَّابِقَةُ بِجُمْلَتِهَا، بَعْضُهَا مُرَغِّبٌ وَبَعْضُهَا مُرَهِّبٌ، وَالْمُرَغِّبُ مِنْهَا مَحْمُولٌ عَلَى الصَّالِحِ لِلْقَضَاءِ الْمُطِيقِ لِحَمْل عِبْئِهِ، وَالْقِيَامِ بِوَاجِبِهِ، وَالْمُرَهِّبُ مِنْهَا مَحْمُولٌ عَلَى الْعَاجِزِ عَنْهُ، وَعَلَى ذَلِكَ يُحْمَل دُخُول مَنْ دَخَل فِيهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَامْتِنَاعُ مَنِ امْتَنَعَ عَنْهُ، فَقَدْ تَقَلَّدَهُ بَعْدَ الْمُصْطَفَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلاَمُهُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، سَادَاتُ الإِْسْلاَمِ وَقَضَوْا بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ، وَدُخُولُهُمْ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى عُلُوِّ قَدْرِهِ، وَوُفُورِ أَجْرِهِ، فَإِنَّ مَنْ بَعْدَهُمْ تَبَعٌ لَهُمْ، وَوَلِيَهُ بَعْدَهُمْ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَكَابِرِ التَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ، وَمَنْ كَرِهَ الدُّخُول فِيهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَعَ فَضْلِهِمْ وَصَلاَحِيَّتِهِمْ وَوَرَعِهِمْ مَحْمُولٌ كُرْهُهُمْ عَلَى مُبَالَغَةٍ فِي حِفْظِ النَّفْسِ، وَسُلُوكٍ لِطَرِيقِ السَّلاَمَةِ، وَلَعَلَّهُمْ رَأَوْا مِنْ أَنْفُسِهِمْ فُتُورًا أَوْ خَافُوا مِنَ الاِشْتِغَال بِهِ الإِْقْلاَل مِنْ تَحْصِيل الْعُلُومِ. (2)
وَمِمَّنِ امْتَنَعَ عَنْ تَوَلِّي الْقَضَاءِ بَعْدَ أَنْ طُلِبَ لَهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ (3) .
__________
(1) سورة الجن / 15.
(2) معين الحكام ص 8، المغني 9 / 35، ومغني المحتاج 4 / 372، وتبصرة الحكام لابن فرحون 1 / 13، 14.
(3) كتاب أدب القضاء لابن أبي الدم الحموي ص 62.
الصفحة 290