كتاب الموسوعة الفقهية الكويتية (اسم الجزء: 35)
00 {وَمَنْ يَقْتُل مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} .
وَجْهُ الدَّلاَلَةِ مِنَ الآْيَتَيْنِ: أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَل أَوْجَبَ فِي الآْيَةِ الأُْولَى كَفَّارَةَ الْقَتْل الْخَطَأِ ثُمَّ ذَكَرَ فِي الآْيَةِ الثَّانِيَةِ الْقَتْل الْعَمْدَ، وَلَمْ يُوجِبْ فِيهِ كَفَّارَةً، جَعَل جَزَاءَهُ جَهَنَّمَ، فَلَوْ كَانَتِ الْكَفَّارَةُ فِيهِ وَاجِبَةً لَبَيَّنَهَا وَذَكَرَهَا، فَكَانَ عَدَمُ ذِكْرِهَا دَلِيلاً عَلَى أَنَّهُ لاَ كَفَّارَةَ فِيهِ (1) .
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ سُوَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَتَل رَجُلاً، فَأَوْجَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ الْقَوَدَ وَلَمْ يُوجِبْ كَفَّارَةً (2) .
وَقَالُوا: إِنَّ الْقَتْل الْعَمْدَ فِعْلٌ يُوجِبُ الْقَتْل فَلاَ يُوجِبُ كَفَّارَةً، كَزِنَا الْمُحْصَنِ (3) ، وَإِنَّ الْكَفَّارَةَ دَائِرَةٌ بَيْنَ الْعِبَادَةِ وَالْعُقُوبَةِ، فَلاَ بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ سَبَبُهَا دَائِرًا بَيْنَ الْحَظْرِ وَالإِْبَاحَةِ لِتَعَلُّقِ الْعِبَادَةِ بِالْمُبَاحِ وَالْعُقُوبَةِ بِالْمَحْظُورِ، وَقَتْل الْعَمْدِ كَبِيرَةٌ مَحْضَةٌ، فَلاَ تُنَاطُ بِهِ كَسَائِرِ الْكَبَائِرِ، مِثْل الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَالرِّبَا، وَلِعَدَمِ جَوَازِ قِيَاسِهِ عَلَى الْخَطَأِ، لأَِنَّهُ دُونَهُ فِي الإِْثْمِ، فَشَرْعُهُ لِدَفْعِ الأَْدْنَى لاَ يَدُل عَلَى دَفْعِ الأَْعْلَى،
__________
(1) المغني 8 / 96.
(2) حديث: " إن الحارث بن سويد بن الصامت قتل رجلاً. . . ". أورده ابن سعد في الطبقات (3 / 553) دون إسناد.
(3) المغني 8 / 96.
وَلأَِنَّ فِي الْقَتْل الْعَمْدِ وَعِيدًا مُحْكَمًا، وَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَال يَرْتَفِعُ الإِْثْمُ فِيهِ بِالْكَفَّارَةِ مَعَ وُجُودِ التَّشْدِيدِ فِي الْوَعِيدِ بِنَصٍّ قَاطِعٍ لاَ شُبْهَةَ فِيهِ، وَمَنِ ادَّعَى غَيْرَ ذَلِكَ كَانَ تَحَكُّمًا مِنْهُ بِلاَ دَلِيلٍ، وَلأَِنَّ الْكَفَّارَةَ مِنَ الْمُقَدَّرَاتِ فَلاَ يَجُوزُ إِثْبَاتُهَا بِالْقِيَاسِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ، وَلأَِنَّ قَوْله تَعَالَى: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} هُوَ كُل مُوجِبِهِ، وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي سِيَاقِ الْجَزَاءِ لِلشَّرْطِ، فَتَكُونُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ نَسْخًا، وَلاَ يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالرَّأْيِ (1) .
الْقَوْل الثَّانِي: وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ فِي الْقَتْل الْعَمْدِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الزُّهْرِيُّ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى وَاثِلَةُ بْنُ الأَْسْقَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فَأَتَاهُ نَفَرٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، فَقَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّ صَاحِبًا لَنَا قَدْ أَوْجَبَ فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اعْتِقُوا عَنْهُ رَقَبَةً، يَعْتِقِ اللَّهُ بِكُل عُضْوٍ مِنْهَا عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ (3) ، فَقَدْ أَوْجَبَ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَفَّارَةَ فِيمَا يَسْتَوْجِبُ النَّارَ، وَلاَ تُسْتَوْجَبُ النَّارُ إِلاَّ فِي قَتْل الْعَمْدِ (4) ، فَدَل هَذَا عَلَى أَنَّ
__________
(1) تبيين الحقائق 6 / 99، 100، والجامع لأحكام القرآن 5 / 331.
(2) روضة الطالبين للنووي 9 / 380، والمغني 8 / 96.
(3) حديث واثلة بن الأسقع: " كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك. . . " أخرجه ابن حبان (الإحسان 10 / 145 - 146) والحاكم (2 / 212) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(4) مغني المحتاج 4 / 107.
الصفحة 52