كتاب الموسوعة الفقهية الكويتية (اسم الجزء: 42)

وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّ الْهِبَةَ عَقْدُ تَبَرُّعٍ، فَلَوْ صَحَّتْ بِلاَ قَبْضٍ لَثَبَتَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ وِلاَيَةُ مُطَالَبَةِ الْوَاهِبِ بِالتَّسْلِيمِ، فَتَصِيرُ عَقْدَ ضَمَانٍ بِالتَّسْلِيمِ، وَهَذَا تَغْيِيرٌ لِمَا تَقَرَّرَ شَرْعًا فِي الْهِبَةِ مِنْ أَنَّهَا تَبَرُّعٌ.

الْقَوْل الثَّانِي: وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْهِبَةَ تَصِحُّ وَتُمْلَكُ بِعَقْدٍ، فَيَصِحُّ تَصَرُّفٌ قَبْل الْقَبْضِ، وَتَلْزَمُ الْهِبَةُ بِقَبْضِهَا بِإِذْنِ الْوَاهِبِ، وَلاَ تَلْزَمُ قَبْلَهُمَا وَلَوْ كَانَتِ الْهِبَةُ فِي غَيْرِ مَكِيلٍ وَمَوْزُونٍ (1) ، لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ " أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَحَلَهَا جُذَاذَ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ مَالِهِ بِالْعَالِيَةِ، فَلَمَّا مَرِضَ قَال: يَا بُنَيَّةُ كُنْتُ نَحَلْتُكِ جُذَاذَ عِشْرِينَ وَسْقًا وَلَوْ كُنْتِ جَذَذْتِيهِ أَوْ قَبَضْتِيهِ كَانَ ذَلِكَ، فَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْمَ مَال وَارِثٍ، فَاقْتَسِمُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى (2) ".
وَعَنِ ابْنِ حَامِدٍ أَنَّ الْمِلْكَ فِي الْهِبَةِ يَقَعُ مُرَاعًى: فَإِنْ وُجِدَ الْقَبْضُ تَبَيَّنَّا أَنَّهُ كَانَ لِلْمَوْهُوبِ بِقَوْلِهِ، وَإِلاَّ فَهُوَ لِلْوَاهِبِ، قَال الْبُهُوتِيُّ: وَهُوَ وَجْهٌ حَسَنٌ.
__________
(1) كشاف القناع 4 / 300.
(2) أثر عائشة: " أن أبا بكر - رضي الله عنه - نحلها جذاذ عشرين. . . ". أخرجه مالك في الموطأ (2 / 752 ط عيسى الحلبي) .
وَقَال الْمَرْدَاوِيُّ: وَظَاهِرُ كَلاَمِ الْخَرَقِيِّ وَطَائِفَةٌ أَنَّ مَا يُكَال وَيُوزَنُ لاَ يَصِحُّ إِلاَّ مَقْبُوضًا (1) .
الْقَوْل الثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ. وَعِنْدَهُمْ أَنَّ الْقَبْضَ لَيْسَ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْهِبَةِ، بَل إِنَّ الْقَبْضَ شَرْطٌ فِي تَمَامِهَا فَإِنْ عُدِمَ لَمْ تَلْزَمْ مَعَ كَوْنِهَا صَحِيحَةً (2) .
وَذَهَبَ أَبُو ثَوْرٍ إِلَى لُزُومِ الْهِبَةِ بِالإِْيجَابِ وَالْقَبُول لِعُمُومِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ، وَلأَِنَّهُ إِزَالَةُ مِلْكٍ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَلَزِمَ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ كَالْوَقْفِ وَالْعِتْقِ (3) .
وَلِلْمَوْهُوبِ لَهُ إِجْبَارُ الْوَاهِبِ عَلَى تَمْكِينِهِ مِنَ الْقَبْضِ حَيْثُ طَلَبَهُ عَلَى الْمَشْهُورِ، فَلَهُ طَلَبُهَا مِنْهُ حَيْثُ امْتَنَعَ الْوَاهِبُ وَلَوْ عِنْدَ حَاكِمٍ لِيُجْبِرَهُ عَلَى تَمْكِينِ الْمَوْهُوبِ لَهُ مِنْهُ، قَال ابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: الْقَبُول وَالْحِيَازَةُ مُعْتَبَرَانِ، إِلاَّ أَنَّ الْقَبُول رُكْنٌ وَالْحِيَازَةَ شَرْطٌ، وَتَبْطُل الْهِبَةُ إِنْ تَأَخَّرَ حَوْزُهَا لِدَيْنٍ مُحِيطٍ بِمَال الْوَاهِبِ وَلَوْ بَعْدَ
__________
(1) كشاف القناع 4 / 300، والإنصاف 7 / 120 - 121، والمغني والشرح الكبير 6 / 246.
(2) الخرشي 7 / 104، 107، وحاشية الدسوقي 4 / 101.
(3) المغني مع الشرح 6 / 246.

الصفحة 131