كتاب الموسوعة الفقهية الكويتية (اسم الجزء: 42)

سَادَةً مُطَاعِينَ فِي عَشَائِرِهِمْ، فَكَانَ الْمَصْلَحَةُ الدِّينِيَّةُ فِي تَأْلِيفِ قُلُوبِهِمْ. وَهَؤُلاَءِ كَانُوا مُؤْمِنِينَ، وَالْمُؤْمِنُونَ سِوَاهُمْ كَثِيرٌ، فَكَانَ فِي هَجْرِهِمْ عِزُّ الدِّينِ وَتَطْهِيرُهُمْ مِنْ ذُنُوبِهِمْ، وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْمَشْرُوعَ فِي الْعَدْوِ الْقِتَال تَارَةً، وَالْمُهَادَنَةُ تَارَةً، وَأَخْذُ الْجِزْيَةِ تَارَةً. كُل ذَلِكَ بِحَسَبِ الأَْحْوَال وَالْمَصَالِحِ (1) .

هَجْرُ الْمُسْتَتِرِ بِالْمَعْصِيَةِ:
19 - أَمَّا الْمُسْتَتِرُونَ مِنْ أَهْل الْفِسْقِ وَالْمَعْصِيَةِ وَغَيْرُ الْمُجَاهِرِينَ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَهْل الأَْهْوَاءِ وَالْبِدَعِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ هَجْرِهِمْ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: يَجِبُ هَجْرُهُمْ؛ لِيَكُفُّوا عَنْهَا. قَال ابْنُ حَجَرٍ مُعَلِّقًا عَلَى تَرْجَمَةِ الْبُخَارِيِّ - بَابُ مَا يَجُوزُ مِنَ الْهِجْرَانِ لِمَنْ عَصَى - فَتَبَيَّنَ هُنَا السَّبَبُ الْمُسَوِّغُ لِلْهَجْرِ، هُوَ لِمَنْ صَدَرَتْ مِنْهُ مَعْصِيَةٌ، فَيَسُوغُ لِمَنِ اطَّلَعَ عَلَيْهَا مِنْهُ هَجْرُهُ عَلَيْهَا لِيَكُفَّ عَنْهَا (2) .
وَقَال أَبُو الْحُسَيْنِ الْفَرَّاءُ الْحَنْبَلِيُّ: لاَ تَخْتَلِفُ الرِّوَايَةُ - أَيْ عَنْ أَحْمَدَ - فِي وُجُوبِ
__________
(1) مَجْمُوع فَتَاوَى ابْن تَيْمِيَّةَ 28 / 204 - 206، وانظرها 28 / 216 أَيْضًا.
(2) فَتْح الْبَارِي 10 / 497
هَجْرِ أَهْل الْبِدَعِ وَفُسَّاقِ الْمِلَّةِ، وَظَاهِرُ إِطْلاَقِهِ أَنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ الْمُجَاهِرِ وَغَيْرِهِ فِي الْمُبْتَدِعِ الْفَاسِقِ. قَال: وَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ ذِي رَحِمٍ وَالأَْجْنَبِيِّ إِذَا كَانَ الْحَقُّ لِلَّهِ تَعَالَى. فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْحَقُّ لآِدَمِيٍّ كَالْقَذْفِ وَالسَّبِّ وَالْغِيبَةِ أَخَذَ مَالَهُ غَصْبًا وَنَحْوَ ذَلِكَ نَظَرَ: فَإِنْ كَانَ الْهَاجِرُ وَالْفَاعِل لِذَلِكَ مِنْ أَقَارِبِهِ وَأَرْحَامِهِ لَمْ تَجُزْ هِجْرَتُهُ.
وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ فَهَل تَجُوزُ هِجْرَتُهُ أَمْ لاَ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ (1) .
وَالْقَوْل الثَّانِي: لاَ يَهْجُرُونَ. حَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى عَنْ ظَاهِرِ كَلاَمٍ لِلإِْمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ (2) .
وَالثَّالِثُ: أَنَّ فَاعِل الْمُنْكَرِ إِنْ كَانَ مُسْتَتِرًا بِذَلِكَ وَلَيْسَ مُعْلِنًا لَهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ سِرًّا وَسَتَرَ عَلَيْهِ كَمَا قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (3) ، إِلاَّ أَنْ يَتَعَدَّى ضَرَرُهُ، وَالْمُتَعَدِّي لاَ بُدَّ مِنْ كَفِّ عُدْوَانِهِ. وَإِذَا نَهَاهُ
__________
(1) الآْدَاب الشَّرْعِيَّة 1 / 238، وغذاء الأَْلْبَاب 9 / 259)
(2) الآْدَاب الشَّرْعِيَّة 1 / 233، وغذاء الأَْلْبَاب 1 / 260
(3) حَدِيث: " منْ ستر مُسْلِمًا. . ". أَخْرَجَهُ البخاري (فَتْح الْبَارِي 5 / 97 ط السَّلَفِيَّة) ، ومسلم (4 / 1996 ط الْحَلَبِيّ) مِنْ حَدِيثِ عَبْد اللَّه بْن عُمَر، وأخرجه مُسْلِم (4 / 2074) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظ: " سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ "

الصفحة 175