وإن هذا يدل على أنه يأخذ بالكتاب والسنة، ثم ما يجمع عليه الصحابة، وما يختلفون فيه يقدم من أقوالهم أقواها اتصالاً بالكتاب والسنة، فإن لم يستبن له أقواها اتصالاً بهما اتبع ما عمل به الأئمة الراشدون رضوان الله تبارك وتعالى عنهم، لأن قول الأئمة مشهور وتكون أقوالهم ممحصة عادة. وكذلك الإمام مالك رحمه الله، فإن الموطأ كثير من أحكامه يعتمد على فتوى الصحابة، ومثله الإمام أحمد". (6)
ولقد قال ابن القيم (7) في بيان أن آراء الصحابة أقرب إلى الكتاب والسنة من آراء من جاءوا بعدهم:
"إن الصحابي إذا قال قولاً، أو حكم بحكم، أو أفتى بفتيا فله مدارك ينفرد بها عنا، ومدارك نشاركه، فأما ما يختص به فيجوز أن يكون سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - شفاهاً، أو من صحابي آخر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن ما انفردوا به عن العلم عنا أكثر من أن يحاط به، فلم يرو كل منهم كل ما سمع. وأين ما سمعه الصديق والفاروق وغيرهما من كبار الصحابة إلى ما رووه؟ فلم يرو عن صديق الأمة مئة حديث، ولم يغب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في شيء من مشاهده، بل صحبه من حيث بعث بل قبل البعث إلى أن توفي، وكان أعلم الأمة به - صلى الله عليه وسلم - وبقوله وبفعله، وهديه وسيرته، وكذلك أجلة الصحابة رواياتهم قليلة جداً بالنسبة إلى ما سمعوه من نبيهم وشاهدوه، ولو رووا كل ما سمعوه وشاهدوه لزادوا على رواية أبي هريرة أضعافاً مضعفة، فإنما صحبه نحو أربع سنين. وقد روى عنه الكثير، فقول القائل: لو كان عند الصحابي في هذه الواقعة شيء لذكره، قول من لم يعرف سيرة القوم وأحوالهم، فإنهم كانوا يهابون الرواية ويعظمونها ويقللون منها خوف الزيادة والنقص، ويحدثون بالشيء الذي سمعوه من النبي - صلى الله عليه وسلم - مراراً، ولا يصرحون بالسماع ولا يقولون: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فتلك الفتوى التي يفتى بها الصحابي تخرج عن ستة وجوه:
أحدها: أن يكون سمعها من النبي - صلى الله عليه وسلم -.
الثاني: أن يكون سمعها ممن سمعها.
_____________
(1) - أصول الفقه لأبي زهرة: ص170 – 171
(2) - إعلام الموقعين لابن القيم: ص248/جـ1ط. الشيخ منير الدمشقي.