كتاب ملامح رئيسية للمنهج السلفي

وإذا كان الكفار مخاطبين بفروع الشريعة على الأرجح (*) ، فكيف بالمسلمين الذين قال تعالى في حقهم: {إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون} (النور:51) وقال عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة} (البقرة: 208) ، دون تفريق بين فروع وأصول وبين ظاهر وباطن وبين قشر ولب. وربنا جل وعلا قد أمر المؤمنين بالقيام بما شرعه من دينه - ولو كان من القضايا العلمية التي يسمونها فروعاً – في أشد أوقات الكفاح وهو وقت الالتحام المسلح مع الأعداء، في قوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} (النساء: 102)
وما يتوهمه هؤلاء المخالفون ما هو إلا نتيجة لتخيلهم أن النسبة بين (مواجهة الأعداء والانتصار عليهم) وبين (تعلم المسائل الفرعية والتمسك بها وإن دقت) إنما هي تباين المقابلة، كتباين النقيضيين: كالعدم والوجود، والنفي والإثبات، أو تباين الضدين: كالسواد والبياض، والحركة والسكون، أو تباين المتضائفين (كالأبوة والبنوة) ، والفوق والتحت، أو العدم والملكة كالبصر والعمى.
فإن الوجود والعدم لا يجتمعان في شيء واحد في وقت واحد من جهة واحدة، كذلك الحركة والسكون مثلاً، وكذلك الأبوة والبنوة، فكل ذات ثبت لها الأبوة لذات استحالت عليها البنوة لها، بحيث يكون شخص أباً وابناً لشخص واحد، كاستحالة اجتماع السواد والبياض في نقطة بسيطة أو الحركة والسكون في جرم، وكذلك البصر والعمى لا يجتمعان.
فتخيل هؤلاء أن مواجهة الأعداء والتمسك بالفروع متباينان تباين مقابلة بحيث يستحيل اجتماعهما، فكان من نتائج ذلك هذه المعارضة المتهافتة. والتحقيق أن النسبة بين الأمرين بالنظر إلى العقل وحده، وقطع النظر عن النصوص النقلية إنما هي تباين المخالفة.
_____________
(*) - من أدلة هذا الترجيح: قوله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ () قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ () وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} (المدثر: 42-44) . وقوله سبحانه تعالى: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ () ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ () ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ () إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} (الحاقة: 30-34) . ومنها قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} إلى قوله: {يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا} الآية. لأن الآية في مضاعفة العذاب في حق من جمع بين المحظورات المذكورة.

الصفحة 199