كتاب مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (اسم الجزء: 1)

أما بعد: فإن التمسك بهديه لا يستتب إلا بالاقتفاء لما صدر من مشكاته، والاعتصام بحبل الله لا يتم إلا ببيان كشفه، وكان كتاب المصابيح
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لمن أراد سلوكها وقصد تملكها، ولمن أعرض عنها، كقوله تعالى: {هدى للمتقين} . (أما بعد أتى به اقتداء به - صلى الله عليه وسلم - وبأصحابه، فإنهم كانوا يأتون به في خطبهم للانتقال من أسلوب إلى أسلوب آخر، ويسمى فصل الخطاب، واختلف في أول من قالها، فقيل: داود - عليه السلام -، رواه الطبراني مرفوعاً من حديث أبي موسى الأشعري، وفي إسناده ضعف، وفيه أقوال أخرى ذكرها الحافظ في الفتح، و (أما) لتفصيل المجمل، وهو كلمة شرط محذوف فعله وجوباً، و (بعد) من الظروف الزمانية متعلق بالشرط المحذوف، وهو مبني على الضم لقطعه عن الإضافة والمضاف إليه منوي، والتقدير: مهما يذكر شيء من الأشياء بعد ما ذكر من البسملة والحمدلة والصلاة والثناء (فإن التمسك بهديه) بفتح الهاء وسكون الدال أي طريقه وسيرته، يقال ما أحسن هديه أي طريقه وهدى هديه أي سيرته (لا يستتب) بتشديد الباء أي لا يستقيم ولا يستمر، أو لا يتأتى ولا يتهيأ (إلا بالاقتفاء) أي بالاتباع (لما صدر) أي ظهر (من مشكاته) أي صدره، والمشكاة هي الكوة في الجدار غير النافذة، يوضع فيها المصباح أي السراج، استعيرت لصدره - صلى الله عليه وسلم -، شبه صدره الذي يفيض النور المقتبس من القلب على الخلق بالمشكاة التي فيها المصباح، وشبه قلبه المنور بنور الله تعالى بالمصباح المضيء (والاعتصام) بالنصب، ويجوز الرفع، أي التمسك والتشبث (بحبل الله) أي القرآن لما ورد في حديث الحارث الأعور عن علي مرفوعاً في صفة القرآن ((هو حبل الله المتين وصراطه المستقيم)) أخرجه الترمذي، وروى الحافظ أبوجعفر الطبري بسنده عن أبي سعيد مرفوعاً ((كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض)) ، وروي من حديث عبد الله بن مسعود وزيد بن أرقم وحذيفة نحو ذلك. استعار الحبل للقرآن من حيث أن العمل بالقرآن سبب لحصول العلوم والمعارف التي هي وسيلة إلى الحياة الأبدية، كما أن الحبل وسيلة إلى الوصول إلى الماء الذي هو سبب للحياة الدنيوية، أو من حيث أن التمسك بالقرآن سبب للنجاة عن التردي والخلاص من الوقوع في دركات جهنم، كما أن التمسك بالحبل سبب للسلامة عن التردي في البئر عند الاحتياج إلى الماء (إلا ببيان كشفه) أي السنة النبوية، والإضافة بيانية، قال الله تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} [16: 44] ، ولا شك أنه لا يمكن الوصول إلى حقيقة معاني القرآن ولا يتيسر فهم مقاصده إلا بتبيينه - صلى الله عليه وسلم - وإيضاحه، فكان هو مبيناً لمجملات القرآن ومفسراً لمشكلاته، وليس بيانه وتفسيره إلا في أحاديثه، فكل حديث ورد في الصلاة فهو بيان وتفسير لقوله تعالى: {وأقيموا الصلاة} فإن الصلاة مجملة لم يبين أوقاتها وأعدادها وأركانها وشرائطها وواجباتها وسننها ومفسداتها إلى السنة، وكذا الزكاة والصوم والحج (وكان كتاب المصابيح) قيل: إن البغوي لم يسم هذا الكتاب بالمصابيح نصاً منه، وإنما صار هذا الاسم علماً له بالغلبة من حيث أنه ذكر بعد قوله (أما بعد) فهذه ألفاظ صدرت عن صدر النبوة، وسنن سارت عن معدن الرسالة، وأحاديث جاءت عن سيد المرسلين وخاتم النبيين هن مصابيح الدجى ... الخ، وهو من أجمع الكتب في باب الحديث فإنه جمع فيه أحاديث الأحكام على ترتيب الأبواب

الصفحة 5