كتاب مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (اسم الجزء: 3)

إذ ذاك في الصلاة بخلاف الحديث الثاني، فإن الرفع الذي نهي عنه في هذا الحديث كان فعل جميعهم. وفيه أنه الحديث الأول رواه النسائي بلفظ: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن يعني رافعوا أيدينا في الصلاة، فقال ما بالهم-الحديث. وفي رواية لأحمد (ج5: ص107) : دخل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن رافعي أيدينا في الصلاة، فقال: ما لي أراكم ... -الحديث. وهاتان الروايتان كما ترى تدلان على أن الرفع كان فعل جميعهم لا فعل قوم مخصوصين، وليس في طريق من طرق الحديث الأول أنهم كانوا متنفلين، ولا أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن معهم في تلك الصلاة. وروى أحمد (ج5: ص107) الحديث الثاني بلفظ. كنا إذا صلينا خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشار أحدنا إلى أخيه من عن يمينه ومن عن شماله، فلما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ما بال أحدكم يفعل هذا كأنها أذناب خيل شمس، إنما يكفي أحدكم ... الخ. وفي رواية له: كنا نقول خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سلمنا: السلام عليكم، السلام عليكم، يشير أحدنا بيده عن يمينه وعن شماله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما بال الذين يرمون بأيديهم في الصلاة كأنها أذناب الخيل الشمس؟ ألا يكفي أحدكم ... الخ. وفي أخرى (ج5: ص86) له أيضاً: ما بال أقوام يرمون بأيديهم. وهذه الروايات تدل على أن الرفع الذي نهى عنه في هذا الحديث لم يكن فعل جميعهم خلاف ما ادعى هذا البعض. قال: والرابع أن الحديث الثاني يدل على أن رفعهم كان كرفع المصافح عند السلام، ولا يمكن أن يكون هذا هو الرفع في الحديث الأول؛ لأنهم كانوا فرادى. وفيه أنه لا دليل في الحديث الأول على أنهم كانوا فرادى، بل كانوا يصلون خلف النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما هو مصرح في الطريق الثاني لحديث جابر، وعلى هذا فالرفع المذكور في الطريق الثاني الطويل هو الرفع في الطريق المختصر، يدل على ذلك أنه ورد التقبيح على الرفعين في الحديثين بلفظ واحد وهو قوله: "كأنه أذناب الخيل الشمس". ولا يفهم كونهم فرادى من الحديث الأول إلا من ليس له اطلاع على تصرف الرواة واختلافهم في الروايات، وعلى من رسخ في قلبه كونهما حديثين متغايرين تمشية لمذهبه وإبطالاً للسنة الصحيحة الثابتة المتواترة تواتر إسناد وعمل، وهذا من ثمرات التقليد. قال: والخامس أن الحديث الأول ورد على الرفع، ونهى عنه بلفظ عام، أي اسكنوا في الصلاة، بخلاف الثاني فإنه ورد في الإشارة والإيماء، ونهى عنه بلفظ يختص بحالة السلام- انتهى. وحاصله أن الرفع لا يطلق على الإيماء. وفيه أن الحديث الثاني وإن لم يذكر فيه لفظ الرفع نصاً لكنه ورد على ما هو في معنى الرفع، ففي رواية لأحمد (ج5: ص86) : ما بال أقوام يرمون بأيديهم، والرمي بالأيدي هو الرفع، ونهى فيه أيضاً بلفظ عام، أي السكون، وورد التقبيح بلفظ واحد، ففي الرواية المذكورة: "كأنها أذناب الخيل الشمس، ألا يسكن أحدكم". على أن الإشارة يكون فيها أيضاً الرفع وبالعكس، ولذلك أطلق أحدهما على الآخر، ففي حديث ابن عمر عند مسلم في صفة صلاته - صلى الله عليه وسلم -: "رفع إصبعه اليمنى" وفي رواية: "أشار بالسبابة"، قال الطيبي: أي رفعها. وروى أبوداود عن وائل: "رفع إصبعه" وعن ابن الزبير: "كان يشير بإصبعه إذا دعا"، وهذا كما ترى قد أطلق فيهما الرفع

الصفحة 20