كتاب مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (اسم الجزء: 3)

المفسر مقدم على التعديل، ولو كان عدد المعدلين أكثر، فكيف إذا كان عدد الجارحين أكثر، وههنا كذلك. قال ابن الصلاح في مقدمته: إذا اجتمع في شخص جرح وتعديل فالجرح مقدم؛ لأن المعدل يخبر عما ظهر من حاله، والجارح يخبر عن باطن خفي المعدل، فإن كان عدد المعدلين أكثر فقد قيل: التعديل أولى. والصحيح الذي عليه الجمهور أن الجرح أولى لما ذكرناه، والله أعلم. وقال السيوطي في التدريب: إذا اجتمع فيه جرح مفسر والتعديل، فالجرح مقدم ولو زاد عدد المعدل، هذا هو الأصح عند الفقهاء والأصوليين- انتهى. فلا يلتفت إلى قول من حسن أمر محمد بن جابر في جنب تضعيف هؤلاء الحفاظ النقاد، فما تفوه به بعض الحنفية من أن الأرجح فيه التوثيق والتعديل، بل كأنه من رجال الصحيحين أو من رجال مسلم، مردود عليه. وأما ما قال الحافظ في التقريب: أنه رجحه أبوحاتم على ابن لهيعة فالمراد رجحه في الصدق، يدل على ذلك قول أبي حاتم: "محلمها الصدق، ومحمد بن جابر أحب إليّ من ابن لهيعة"، فإن الظاهر أنه أراد به كونه أحب إليه أي أرجح في الصدق، ويدل على ذلك أيضاً قول أبي حاتم فيه: "ذهبت كتبه في آخر عمره، وساء حفظه، وكان يلقن". وقوله: "رأوا في كتبه لحقاً، وحديثه عن حماد فيه اضطراب"، وقوله: "إن في أحاديثه تخاليط، وأما أصوله فهي صحاح". ومن المعلوم أنه لا منافاة بين كون الرجل صدوقاً وبين كونه سيء الحفظ، كثير الاختلاط، مضطرب الحديث، كثير الوهم. على أنه قد تفرد أبوحاتم في قوله: "هو أحب إليّ من ابن لهيعة" ولم يوافقه أحد في ذلك. والظاهر أن ابن لهيعة أحسن حالاً من محمد بن جابر كما يظهر من تهذيب التهذيب، وميزان الاعتدال. وأما ما قال ابن عدي: إنه روى عنه أي عن محمد بن جابر الكبار: أيوب وابن عون وهشام بن حسان والثوري وشعبة وابن عيينة وغيرهم، ولولا أنه في ذلك المحل لم يرو عنه هؤلاء الذين هو دونهم- انتهى. ففيه أنه لا يلزم من ذلك كونه ثقة ضابطاً حافظاً غير مختلط وغير واهم، كما تقرر في موضعه. وارجع لذلك إلى كتاب العلل للترمذي وغيره من كتب الأصول، فالحق أن محمد بن جابر ضعيف لسوء حفظه، وكثرة اختلاطه، وقبوله التلقين، وقد تفرد هو برواية هذا الحديث فالاستدلال به على نسخ الرفع في الركوع والرفع منه باطل جداً. واستدلوا أيضاً بآثار الصحابة، منها أثر عمر بن الخطاب، روى الطحاوي والبيهقي وأبوبكر بن أبي شيبة عن الحسن بن عياش، عن عبد الملك بن أبجر، عن الزبير بن عدي، عن إبراهيم النخعي عن الأسود، قال: رأيت عمر بن الخطاب يرفع يديه في أول تكبيرة ثم لا يعود. قال النيموي تبعاً للطحاوي وابن التركماني، هو أثر صحيح، وقال: لا يخفي على أحد من أهل العلم أن عمر بن الخطاب كان أعلم بالسنة من ابنه عبد الله وممن كان مثله أو دونه، ولذلك جعل الطحاوي فعل عمر دليلاً على النسخ- انتهى. قلت: فيه كلام من وجوه: الأول: أن في سنده إبراهيم النخعي وهو مدلس، ورواه عن الأسود بالعنعنة فكيف يكون هذا الأثر صحيحاً؟. والثاني: أن في كون هذا الأثر بهذا اللفظ محفوظاً نظراً، روى الحاكم، وعنه البيهقي بسنده، عن سفيان الثوري، عن الزبير بن عدي بلفظ: "كان

الصفحة 25