كتاب مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (اسم الجزء: 3)

لم تصل" للشافعي وأبي يوسف والجمهور على أن تعديل الأركان والطمأنينة فيها فرض. قالوا: إن قوله هذا صريح في كون التعديل من الأركان بحيث أن فوته يفوت الصلاة، وإلا لم يقل: "لم تصل" فإن من المعلوم أن خلاد بن رافع لم يكن ترك ركناً من الأركان المشهورة، إنما ترك التعديل والاطمئنان كما يدل عليه رواية ابن أبي شيبة، فعلم أن تركه مبطل للصلاة. قلت: الحديث فيه رد صريح على أبي حنيفة ومحمد، فإن المشهور من مذهبهما أن تعديل الأركان ليس بفرض بل هو واجب، واستدل لهما بقوله تعالى: {اركعوا واسجدوا} [77: 22] بأن الركوع والسجود لفظ خاص معناه معلوم، فالركوع هو الانحناء، والسجود هو وضع الجبهة على الأرض، فمطلق الميلان عن الاستواء، ووضع الجبهة على الأرض فرض بالآية المذكورة، وفرضية التعديل الثابتة بقوله - عليه السلام -: "لم تصل" لا يجوز إلحاقها بالقرآن لا على سبيل البيان، ولا على سبيل تغيير إطلاق القرآن. أما الأول فلأن البيان لا يكون إلا للمجمل، ولا إجمال في الركوع والسجود، وأما الثاني فلأن تغير إطلاق القرآن نسخ، وهو لا يجوز بالخبر الواحد، ولما لم يجز إلحاق ما ثبت بهذا الحديث بالثابت بالقرآن في مرتبته ولم يمكن ترك خبر الواحد بالكلية أيضاً فقلنا: ما ثبت بالكتاب- وهو مطلق الركوع والسجود- يكون فرضاً؛ لأنه قطعي، وما ثبت بهذا الخبر الظني الثبوت يكون واجباً مراعاة لمنزلة كل من الكتاب والسنة. ورد هذا الاستدلال بأن النص ليس بمطلق بل مجمل، فإن المراد بالركوع والسجود في الآية المذكورة معناهما الشرعي؛ لأنه قد تقرر أن أمثال هذه الألفاظ في النصوص يجب حملها على معانيها الشرعية إلا أن يمنع مانع، ولا مانع ههنا، ولأن من وضع الجبهة إلى غير القبلة أو على غير الوضوء فهو ساجد لغة، وليست هذه السجدة معتبرة في الشرع. ومعنى الركوع والسجود الشرعي غير معلوم، فهو محتاج إلى البيان، فحديث أبي هريرة وما وافقه بيان لذلك النص المجمل، وبيان الفرض المجمل يجوز بخبر الواحد، أي يكون فرضاً في مرتبة المجمل. قال الشيخ عبد الحليم اللكنوي الحنفي في حاشية نور الأنوار بعد ذكر نحو ما قدمنا من تقرير استدلال الحنفية: ولو سلمنا أن النص مطلق فنقول إن هذا الحديث ليس بخبر الواحد، بل هو حديث مشهور، تلقاه الأمة بالقبول، ورواه أئمة الحديث بأسانيد كثيرة، والزيادة على الكتاب بالخبر المشهور جائزة- انتهى. وقال بعد ذكر حديث أبي هريرة: هذا الحديث دال على أن تعديل الركوع والسجود فرض، والقومة والجلسة ركنان، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفى الصلاة بفواتها. وإن زللت بما قال بعض السابقين، من أن في آخر الحديث المذكور- يعني حديث رفاعة- زيادة تدل على توقف صحة الصلاة عليها، وهو قوله - عليه السلام -: فإذا فعلت ذلك فقد تمت صلاتك، وإن انتقصت منه شيئاً انتقصت من صلاتك، فسماها- عليه السلام -صلاة، والباطلة ليست بصلاة، وأيضاً وصفها بالنقص، والباطلة إنما توصف بالانعدام، فعلم أن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإعادة إنما كان لتقع الصلاة على غير كراهة لا لفساد صلاة ذلك الرجل، ثبتك أن معنى هذه الزيادة: إن فعلت ما بينت من التعديل على الكمال فقد صليت صلاة تامة، وإن نقصت من التعديل شيئاً من النقصان مع بقاء أصل التعديل- كما يدل عليه لفظ نقصت- فقد نقصت من صلاتك بقدر نقصان التعديل. فالإخلال بالتعديل رأساً يوجب الفساد. فإن غلب عليك جنود الوهم بأن القومة والجلسة

الصفحة 3