كتاب مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (اسم الجزء: 3)

مشروعيته في وسطها، ثم الحكم بكراهته أو عدم استحبابه في المواضع الثلاثة على توهم أنه نسخ لكونه منافياً للخشوع والسكون صريح تناقض. وقد رد هذا الاستدلال الشيخ محمد معين السندي أيضاً في دراساته (ص169) فارجع إليه. هذا، وقد ذكروا لترجيح ترك الرفع في غير التحريمة، وترجيح روايات الترك على الرفع ورواياته وجوهاً كلها مخدوشة مردودة، فمنها أن الرفع فعل ينبىء عن الترك فلا يناسب كونه في أثناء الصلاة. وفيه أن تجديد التنبه لترك ما سوى الله عند كل فعل أصل من الصلاة مطلوب، وهذا يقتضي استحباب الرفع في أثناء الصلاة لا تركه. ومنها أنه قد ثبت ترك الرفع في غير الافتتاح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قصداً فلم يكن تركه على طريق العدم الأصلي. وقد علم أن مبنى الصلاة على سكون الأطراف، وهذا يقتضي كون ترك الرفع أرجح. وفيه أنه لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك الرفع المتنازع فيه أصلاً كما تقدم، وعلى هذا فالترك عدمي محض، فيترجح عليه الرفع، لكونه عبادة بخلاف الترك فإنه ترك عبادة. وأيضاً الرفع فعل تعظيمي، ولذلك ابتدأ به الصلاة، وهذا أيضاً يقتضي كون الرفع أرجح. ومنها ما قال بعضهم في شرحه للموطأ: أن كل ما اختلف فيه شيء من الروايات أخذت الحنفية منها الأوفق بالقرآن، فلما رأوا أحاديث ترك الرفع أوفق بقوله تعالى: {قوموا لله قانتين} [238: 2] رجحوها به، قال: وهذا أوجه وجوه الترجيح. وفيه أن هذا الوجه ليس بوجيه فضلاً أن يكون أوجه، بل هو باطل جداً لما قد عرفت أن الروايات التي استدلوا بها على ترك الرفع في غير الافتتاح كلها ضعيفة غير قابلة للاحتجاج، بل بعضها باطلة موضوعة، فالتصدي لترجيح مثل هذه الروايات على روايات الرفع الصريحة الصحيحة الثابتة المتواترة إسناداً وعملاً جهل وسفه، لا يأتي ذلك إلا من متعصب معاند للسنة. وأيضاً قد تقدم أن قوله تعالى: {قوموا لله قانتين} نزل قبل وقعة بدر، وقد ثبت الرفع من النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بعد نزوله كما يدل عليه حديث مالك بن الحويرث، ووائل بن حجر، وابن عمر، وغيرهم، بل قد ثبتت مواظبته - صلى الله عليه وسلم -، وإجماع الصحابة عليه بعده، فلو كان ترك الرفع أوفق للقرآن، وأقرب إليه، وأشبه به لما واظب الرسول - صلى الله عليه وسلم - على خلاف مقتضى القرآن، ولا أجمع الصحابة عليه بعده؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كانوا أحق وأكثر فهماً للقرآن. وأيضاً مبنى هذا الوجه على أن الرفع مناف للسكون والخشوع، وقد تقدم بطلانه، ولفساد هذا الوجه وجوه أخرى لا تخفى على المتأمل. ومنها ما قال هذا البعض أيضاً: أن بعض أنواع الرفع الثابتة متروك عند الجميع ومجمع عليه، فهذا قرينة على أنه وقع النسخ فيه، فالأخذ بالمتفق عليه أولى، وهو الرفع عند التحريمة. وفيه نظر من وجوه: الأول أن ترك الرفع بين السجدتين أو في كل خفض ورفع ليس بمجمع عليه كما سيأتي، فدعوى كون بعض أنواع الرفع متروكاً عند الجميع باطلة؛ لكونها خلاف الواقع. الثاني أن من لم يقل بالرفع فيما عدى المواضع الأربعة إنما اختار ذلك لعدم ثبوته عنده بطريق صحيح، لا لأنه كان مشروعاً ثم ترك ونسخ، فلا يكون عدم القول به دليلاً على وقوع النسخ. والثالث أن القائلين بالرفع في المواضع الأربعة ما تركوا المتفق عليه،

الصفحة 31