كتاب مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (اسم الجزء: 3)

وأن الاستدلال بها على ترك الرفع ونسخة جهل قبيح. ومنها ما قال هذا البعض: أن التعارض إذا وقع في الفعل والقول يقدم القول. وفيه أنه لم يرد في الترك حديث قولي، وأما حديث جابر فقد تقدم أنه ورد في الرفع عند السلام لا في الرفع المتنازع فيه. ومنها ما قال هذا البعض أيضاً ملخصاً لكلام الإمام محمد في موطأه: أن الناقلين للترك أولو الأحلام والنهى فكان موقفهم الصف الأول، فهم أعلم بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بخلاف مثل عبد الله بن عمر فإنه استصغر يوم أحد، وأول مشاهده الخندق. وفيه أنه لم ينفرد ابن عمر برواية الرفع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل اشترك معه جمع كثير من الصحابة كأبي بكر عند البيهقي، وعمر عند الدارقطني، وعلي عند أبي داود وغيرهم ممن ذكرهم السيوطي في رسالته. ولا شك أن هؤلاء أولو الأحلام والنهى، ومن أهل بدر، ومن الخلفاء الراشدين، ومن أهل الصف الأول، فهم أعلم بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وليس في كبار الصحابة من روى عدم الرفع في غير الافتتاح إلا ابن مسعود مع أنه لم تثبت روايته عند المحدثين، فانعكس الأمر، وترجح الرفع بما لا يدفع. ومنها ما قال هذا البعض أيضاً: أن الرفع في غير التحريمة يدور بين السنية ونسخها لتعارض الروايات، ومعلوم أن الشيء إذا يدور بين السنة والبدعة يرجح الثاني، ومن المعلوم أيضاً أنه يرجح المحرم على المبيح أبداً. وقال صاحب الكوكب الدري - وهو شيخ مشائخ هذا البعض-: الاحتياط فيما ذهب إليه الإمام أبوحنيفة؛ لأن رفع اليدين على تقدير نسخه يكون عملاً بالمنسوخ، وعدم الرفع على تقدير استحبابه يكون ترك أدب، وإحداث بدعة أشنع من ترك أدب. وفيه أن مقتضى هذا الوجه أن يكون الرفع في غير التحريمة مكروهاً؛ لأنه إما دائر بين أن يكون سنة على تقدير استحبابه، وبين أن يكون بدعة على تقدير نسخه، أو دائر بين أن يكون مباحاً لأحاديث الرفع، وبين أن يكون محرماً لحديث جابر بن سمرة: مالي أرى رافعي أيديكم. وهذا مخالف لما تقدم من تصريح صاحب الكوكب بأنه لا خلاف في الجواز وعدم الجواز، وإنما النزاع في أن الأولى هل هو عدم الرفع أو الرفع، فاخترنا الأول واختار الشافعية الثاني، فإن كلامه هذا يدل على أن المحقق عنده أن جواز الرفع ليس بمنسوخ،، بل هو باق إلى الآن، وإنما المنسوخ هو استحبابه، فالأولى والمستحب عنده هو ترك الرفع، وهو أيضاً مخالف لتصريحات المحققين من الحنفية كأبي بكر الجصاص الرازي، فإنه صرح بأن الاختلاف في الأفضلية لا في الجواز، وتبعه في ذلك الشيخ محمد أنور الكشميري وقال: القول بكراهة التحريم في مسألة متواترة بين الصحابة شديد عندي. وقال جامع تقاريره: من رفع فهو على حق وسنة. وكالشاه ولي الله الدهلوي فإنه صرح بكون الرفع سنة، وبأن الذي يرفع أحب إليه ممن لا يرفع. وكتلميذه الشيخ محمد معين السندي فإنه رد على الحنفية رداً مشبعاً، وحقق كون الرفع سنة متواترة واظب عليها النبي - صلى الله عليه وسلم -. وكالشيخ أبي الحسن السندي صاحب

الصفحة 33