كتاب مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (اسم الجزء: 3)

الترجيح بالفقة المذهب المنصور عندنا-انتهى. والقصة مشهورة بين الحنفية، لكن لا يشك من له أدنى عقل ودراية أنها حكاية مختلقة، وأكذوبة مخترعة. كيف ولم يذكرها أحد من تلاميذه أبي حنيفة وأصحابه، ولا أحد من متقدمي الحنفية، ولو كان لها أصل لذكرها محمد في موطأه أو في غيره من تصانيفه مع أنه لم يشر إليها أدنى إشارة. نعم ذكرها السيد مرتضى الحسيني في عقود الجواهر المنيفة في أدلة مذهب الإمام أبي حنيفة (ج1: ص43) نقلاً عن مسند أبي محمد عبد الله بن محمد بن يعقوب الحارثي البخاري المتوفي سنة (340) قال: روى الحارثي في مسنده قال: حدثنا محمد بن إبراهيم بن زياد الرازي: ثنا سليمان بن داود الشاذكوني ... الخ. وقال: وسليمان الشاذكوني واهٍ مع حفظه، إلا أن القصة مشهورة. وقال ابن التركماني في الجوهر النقي (ج2: ص82) : قال الرازي: الشاذكوني ليس بشيء، متروك الحديث. وقال البخاري: هو عندي أضعف من كل ضعيف. وقال ابن معين: ليس بشيء، وقال مرة: كان يكذب ويضع الحديث-انتهى. قلت: وعبد الله الحارثي جامع مسند أبي حنيفة متهم بوضع الحديث. قال الذهبي في الميزان (ج2: ص74) : عبد الله بن محمد بن يعقوب الحارثي البخاري الفقيه عرف بالأستاذ. قال ابن الجوزي: قال أبوسعيد الرواس: يتهم بوضع الحديث. وقال أحمد السليماني: كان يضع هذا الإسناد على هذا المتن، وهذا المتن على هذا الإسناد، وهذا ضرب من الوضع. وقال حمزة السهمي: سألت أبازرعة أحمد بن الحسن الرازي عنه، فقال: ضعيف. وقال الحاكم: هو صاحب عجائب وأفراد عن الثقات. وقال الخطيب: لا يحتج به. وقال الخليلي: يعرف بالأستاذ، له معرفة بهذا الشأن، وهو لين، ضعفوه. حدثنا عنه الملاحمي وأحمد بن محمد البصير بعجائب. قال الذهبي: وقد جمع مسنداً لأبي حنفية - انتهى. قال الحافظ في اللسان (ج3: ص349) : وبقية كلام الخليلي: كان يدلس، وقال الخطيب: كان صاحب عجائب، ومناكير، وغرائب، وليس بموضع الحجة، وعلى كون هذه الحكاية مختلقة أدلة عقلية أيضاً، فمنها أنه جعل فيها مبنى الترجيح على فقه الراوي، ومرجعه إلى مسألة الرواية بالمعنى؛ لأنه يتعلق بمعرفة مدلولات الألفاظ كما لا يخفى، لكن مسألة الرفع خارجة عنها، فإن الترجيح بالفقه إنما يمكن في أقواله - صلى الله عليه وسلم - لا في أفعاله وأحواله وتقريراته. ومن المعلوم أن رفع اليدين في الصلاة من الأفعال لا من الأقوال، وإليه أشار الإمام الرازي حيث قال: أي مدخل للتفقه في الأمور الحسية؟ ومنها أن أبا حنيفة قال أولاً: لم يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه شيء، وكان مقتضى الحال أن يذكر حديث ابن مسعود، فإن الدليل على ترك الرفع في غير الافتتاح عند أهل الكوفة إنما هو حديث ابن مسعود، لا عدم ورد حديث صحيح في الرفع. ومنها أنه عارض بعد ذلك حديث ابن عمر بحديث ابن مسعود، فكأنه سلم صحة حديث الرفع بعد ما أنكر صحته أولاً، وهذا كما ترى صريح تناقض. ومنها أن المراد بالفقة إن كان هو الفهم والذكاء، وقوة الاستنباط والاستخراج فلا شك أن الزهري أفقه من حماد، وسالماً أفقه من إبراهيم، وابن عمر

الصفحة 35