كتاب مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (اسم الجزء: 3)

الرفع عدمي محض وترك عبادة، بخلاف الرفع فإنه وجودي وعبادة، فيترجح على الترك. وقد ظهر من هذا أن القياس الذي أبداه الباجي ثم نقله هذا البعض عنه لترجيح الترك مردود، لما فيه من إهمال أحاديث الرفع الصحيحة الثابتة المتواترة وطرحها، بخلاف ما ذكرنا من الوجهين لترجح الرفع فإنه موافق لهذه الأحاديث ومؤيد بها، فلا يشك في كونه صحيحاً ومقبولاً. ومنها ما ذكر هذا البعض أيضاً نقلاً عن الطحاوي, وذكره الزيلعي أيضاً في نصب الراية. قال الطحاوي: مذهبنا أيضاً قوي من جهة النظر، فإنهم أجمعوا على أن التكبيرة الأولى معها رفع، وأن التكبيرة بين السجدتين لا رفع بينهما، واختلفوا في تكبيرة الركوع وتكبيرة الرفع منه، فألحقهما قوم بالتكبيرة الأولى، وألحقهما قوم بتكبيرة السجدتين. ثم إنا رأينا تكبيرة الافتتاح من صلب الصلاة، لا تصح بدونها الصلاة، والتكبيرة بين السجدتين ليست بذلك، ورأينا تكبيرة الركوع والنهوض ليستا من صلب الصلاة فألحقناهما بتكبيرة السجدتين-انتهى. وفيه نظر من وجوه، أولها: أن الرفع عند التكبيرة الأولى ليس بمجمع عليه، فإن مالكاً قال في رواية عنه: أنه لا يستحب، نقله صاحب التبصرة، وحكاه الباجي عن كثير من متقدميهم، كذا في الفتح (ج3: ص403) . وفي المنتقى شرح الموطأ لأبي الوليد الباجي: ذهب جمهور الفقهاء إلى أن رفع اليدين عندها مشروع، وروي عن بعض المتقدمين المنع عن ذلك- انتهى. واستدل لهم بحديث جابر بن سمرة: "مالي أرى رافعي أيديكم"، وبما روى الطحاوي عن الأسود قال: صليت مع عمر فلم يرفع يديه في شيء من صلاته. وبما نقل بعض الحنفية عن الطحاوي أنه روى عن إبراهيم قال: كان عبد الله بن مسعود لا يرفع يديه في شيء من الصلاة. ثانيا: أن ترك الرفع بين السجدتين أيضاً ليس بمجمع عليه، فقد ذهب إلى شرعيته أيوب السختياني وطاووس ونافع وعطاء وغيرهم. وقد قال به من الشافعية ابن المنذرو ابن خزيمة وأبوعلي الطبري وغيرهم. وثالثها: أن الذين قالوا بالرفع عند تكبيرة الركوع ورفع الرأس منه إنما اعتمدوا في ذلك على ما ورد فيه من الأحاديث الصحيحة، لا على قياس تكبيرة الركوع والنهوض على التكبيرة الأولى وإلحاقها بها. رابعها: أن تكبيرة الركوع والنهوض، وكذا تكبيرات السجود الظاهر أنها واجبة، ومن صلب الصلاة مثل التكبيرة الأولى، لما روى أبوداود وابن حزم في المحلى (ج3: ص 256) ، وابن الجارود في المنتقى (ص103، 104) وغيرهم حديث المسيء في صلاته بلفظ: "لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله ... " الحديث. وفيه ذكر جميع التكبيرات بسياق واحد، ولما روى أبوداود أيضاً عن أبي موسى الأشعري: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبنا وعلمنا وبين لنا سنتنا، وعلمنا صلاتنا" الحديث. وفيه: "فإذا كبر - أي عند الافتتاح - فكبروا". وفيه أيضاً: "فإذا كبر وركع فكبروا واركعوا". وفيه أيضاً: "وإذا كبر وسجد فكبروا واسجدوا". فقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تتم صلاة أحدكم حتى يفعل كذا وكذا". وقوله: "كبروا". يدلان على وجوب تكبيرات الانتقالات. قال ابن قدامة في المغنى: المشهور عن أحمد أن تكبير الرفع والخفض واجب. وهو قول داود وإسحاق- انتهى. قلت: وهو قول ابن حزم، وهو أيضاً

الصفحة 39