كتاب مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (اسم الجزء: 3)

وإن كان مخرجاً في الصحيحين، وفي أعلى مراتب الصحة، بل ولو كان متواتراً، وقد يحكمون عليه بكونه منسوخاً، وقد سلكوا في حديث ابن عمر المسلكين كما رأيت. وقد يأولون ما خالفهم بتأويلات يصير بها الحديث موافقاً لقول إمامهم، وهي في الحقيقة تكون تحريفات معنوية، وإذا وجدوا حديثاً ضعيفاً موافقاً لمذهبهم ومؤيداً لمسلكهم جعلوا يصححونه وإن كان في غاية الضعف، بل ولو كان ساقطاً أو موضوعاً باطلاً، كما صنعوا بحديث ابن عمر المروي في الخلافيات للبيهقي في رفع اليدين عند تكبير الافتتاح فقط. وقد تقدم البسط في الرد على دعوى نسخ حديث الباب وغيره من أحاديث الرفعات. وأما دعوى اضطرابه فهي أيضاً مردودة باطلة؛ لأن الوجوه التي ذكرها هذا البعض في إثبات اضطراب هذا الحديث من الاختلافات في الرفع والوقف. وفي محل الرفع، وفي مقداره ليس واحد منها موجباً لاضطراب الحديث لإمكان الجمع أو الترجيح، وشرط المضطرب أن يتعذر الجمع أو الترجيح. ولذلك لم ينتقد هذا الحديث على الشيخين أحد من النقاد الذين انتقدوا عليهما. قال الحافظ: الاختلاف على الحفاظ في الحديث لا يوجب أن يكون مضطرباً إلا بشرطين: أحدهما استواء وجوه الاختلاف؛ فمتى رجح أحد الأقوال قدم، ولا يعل الصحيح بالمرجوح. وثانيهما مع الاستواء أن يتعذر الجمع على قواعد المحدثين، أو يغلب على الظن أن ذلك الحافظ لم يضبط ذلك الحديث بعينه؛ فحينئذٍ يحكم على تلك الرواية وحدها بالاضطراب، ويتوقف على الحكم بصحة ذلك الحديث لذلك-انتهى. وههنا وجوه الاختلاف ليست بمستوية ولا تعذر الجمع بينهما كما سيأتي مفصلاً. أما الاختلاف الأول أي اختلاف سالم ونافع في الرفع والوقف فالراجح فيه الرفع وذلك من وجوه: أولها أن رواية سالم مجزومة الرفع، أي لم يختلف عليه أصحابه في الرفع والوقف، بل اتفقوا على روايته عنه مرفوعاً، بخلاف رواية نافع فإنها ليست مجزومة الوقف، أي لم يثبت نافع على الوقف، بل روى مرة مرفوعاً فوافق سالماً في الرفع وأخرى موقوفاً. واختلف عليه أصحابه فروى الليث ومالك وابن جريج عنه موقوفاً، وروى عبيد الله بن عمر في رواية عبد الأعلى عند البخاري وأبي داود عنه مرفوعاً، وكذا روى عنه مرفوعاً أيوب في رواية حماد بن سلمة، وإبراهيم بن طهمان عند البخاري في جزئه، والبيهقي في سننه. قال البخاري في صحيحه بعد إخراجه من طريق عبد الأعلى، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً: ورواه حماد بن سلمة عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورواه ابن طهمان عن أيوب وموسى بن عقبة مختصراً. قال الحافظ: قصد البخاري الرد على من جزم بأن رواية نافع موقوفة، وأنه خالف في ذلك سالماً كما نقله ابن عبد البر وغيره، وقد تبين بهذا التعليق أنه اختلف على نافع في وقفه ورفعه، والذي يظهر أن السبب في هذا الاختلاف أن نافعاً كان يرويه موقوفاً ثم يعقبه بالرفع، فكأنه كان أحياناً يقتصر على الموقوف أو يقتصر عليه بعض الرواة عنه- انتهى. وإخراج البخاري في صحيحه حديث نافع عن ابن عمر

الصفحة 45