كتاب مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (اسم الجزء: 3)

ربنا لك الحمد، وكان لا يفعل ذلك في السجود
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لأن غرض السائل الإجابة والقبول-انتهى. فهو دعاء بقبول الحمد ويحتمل الإخبار (ربنا لك الحمد) هكذا هو بلا واو، وفي رواية: "ربنا ولك الحمد" أي بزيادة الواو. قال الرافعي: روينا في حديث ابن عمر بإسقاط الواو وبإثباتها، والروايتان معاً صحيحتان – انتهى. والكل جائز، وإثبات الواو أولى وأرجح وأفضل؛ لأنها زيادة مقبولة، ولأنها تدل على زيادة معنى؛ لأنه يكون التقدير "ربنا استجب لنا" أو ما قارب ذلك، "ولك الحمد"، فيشتمل الكلام على معنى الدعاء ومعنى الخبر. وإذا قيل بإسقاط الواو دل على أحد هذين، والواو هي عاطفة، وعطف الخبر على الإنشاء جوزه جمع من النحويين وغيرهم. والتقدير: "ربنا تقبل منا، ولك الحمد على هدايتك إيانا لما يرضيك عنا"، وبتقدير اعتماد ما عليه الأكثرون من امتناع عطف الخبر على الإنشاء؛ فالخبر ههنا بمعنى إنشاء الحمد لا الإخبار بأنه موجود؛ إذ ليس فيه كبير فائدة، ولا يحصل به الامتثال لما أمرنا به من الحمد. وقيل: الواو زائدة. وقيل: هي واو الحال. والحديث قد احتج به من قال: إنه يجمع بين التسميع والتحميد كل مصل من غير فرق بين الإمام والمؤتم والمنفرد، فإذا رفع رأسه من الركوع يقول في حال ارتفاعه: "سمع الله لمن حمده"، فإذا استوى قائماً يقول: "ربنا ولك الحمد"، وفيه أن الدليل أخص من الدعوى؛ لأنه حكاية لصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - إماماً كما هو الغالب والمتبادر، إلا أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلوا كما رأيتموني أصلي" يدل على عدم اختصاص ذلك بالإمام. واحتج لذلك أيضاً بما نقله الطحاوي وابن عبد البر من الإجماع على أن المنفرد يجمع بينهما. وجعله الطحاوي حجة لكون الإمام يجمع بينهما للاتفاق على اتحاد حكم الإمام والمنفرد فيلحق بهما المؤتم؛ لأن الأصل استواء الثلاثة في المشروع في الصلاة إلا ما صرح الشرع باستنثائه، ولا دليل في قوله - صلى الله عليه وسلم -: إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا لك الحمد. على استثناء المؤتم عن حكم الجمع بينهما، كما لا دليل فيه على استثناء الإمام عن ذلك. وسنوضح ذلك مع ذكر اختلاف العلماء في هذه المسألة في باب الركوع فانتظر. (وكان لا يفعل ذلك) أي رفع اليدين (في السجود) أي لا عند الهوي والانحطاط، ولا عند رفع الرأس من السجدة؛ ففي رواية للبخاري: "ولا يفعل ذلك حين يسجد، ولا حين يرفع رأسه من السجود"، ولمسلم: "ولا يفعل حين يرفع رأسه من السجود"، وله أيضاً: "ولا يرفعهما بين السجدتين"، وفي حديث علي عند الترمذي: "ولا يرفع يديه في شيء من صلاته، وهو قاعد"، وفي حديث أبي موسى عند الدارقطني: "ولا يرفع بين السجدتين". وهذه الروايات صريحة في نفي الرفع عند الهوي للسجود، وعند الرفع منه، وبين السجدتين. وهو قول جمهور العلماء من السلف والخلف. وذهب بعض أهل العلم إلى الرفع للسجود أيضاً بل لكل خفض ورفع، واستدلوا بحديث ابن عمر عند الطبراني، وقد تقدم الكلام فيه. وبحديث مالك بن الحويرث عند النسائي، وبحديث أنس عند أبي يعلى، وبحديث أبي هريرة عند ابن ماجه، وهذه الأحاديث ضعفها الجمهور وعللوها، وقد ذكرها شيخنا الأجل المباكفوري في أبكار المنن (ص197-200) مع بسط الكلام فيها

الصفحة 48