كتاب مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (اسم الجزء: 4)
وراء ظهري بذكر "من" وبين قوله: إني أراكم خلف ظهري أي بدون "من" أنه إذا وجد من يكون فيه إشعار بأن مبدأ الرؤية ومنشأها من خلف بأن يخلق الله حاسة باصرة فيه، وإذا عدم يحتمل أن يكون منشأها هذه العين المعهودة، وأن تكون غيرها مخلوقة في الخلف والوراء، ولا يلزم رؤيتنا تلك الحاسة، إذ الرؤية إنما هي بخلق الله تعالى وإرادته. والحديث أخرجه أيضاً النسائي. وزاد البخاري في رواية: وكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه. قال الحافظ: صرح سعيد بن منصور في روايته أن هذه الزيادة في آخر الحديث من قول أنس، وأخرحه الإسماعيلي من رواية معمر عن حميد بلفظ: قال أنس: فلقد رأيت أحدنا إلى آخره. وأفاد هذا التصريح أن الفعل المذكور كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وبهذا يتم الاحتجاج به على بيان المراد بإقامة الصف وتسويته، وزاد معمر في روايته ولو فعلت ذلك بأحدهم اليوم لنفر كأنه بغل شموس - انتهى كلام الحافظ. قلت: قوله - صلى الله عليه وسلم -: تراصوا، وقوله: رصوا صفوفكم، وقوله: سدوا الخلل، ولا تذروا فرجات للشيطان، وقول النعمان بن بشير: فرأيت الرجل يلزق كعبه بكعب صاحبه الخ، وقول أنس: وكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه الخ، كل ذلك يدل دلالة واضحة على أن المراد باقامة الصف وتسويته أنما هو اعتدال القائمين على سمت واحد وسد الخلل والفرج في الصف بإلزاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم، وعلى أن الصحابة في زمنه - صلى الله عليه وسلم - كانوا يفعلون ذلك، وأن العمل برص الصف والزاق القدم بالقدم وسد الخلل كان في الصدر الأول من الصحابة وتبعهم، ثم تهاون الناس به. قال شيخنا في إبكار المنن بعد ذكر قولي النعمان وأنس: فظهر أن إلزاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم في الصف سنة، قد عمل بها الصحابة خلف النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو المراد بإقامة الصف وتسوية على ما قال الحافظ - انتهى. وجزى الله أهل الحديث أحسن ما يجزى به الصالحون، فانهم أحيوا هذه السنة التي تهاون الناس بها لاسيما المقلدون لأبي حنيفة، فإنهم لا يلزقون المنكب بالمنكب في الصلاة فضلاً عن إلزاق القدم بالقدم والكعب بالكعب، بل يتركون في البين فرجة قد شبر أو أزيد، بل ربما يتركون فصلاً يسع ثالثاً وإذا قام أحد من أصحاب الحديث في الصلاة مع حنفي وحاول لإلصاق قدمه بقدمه اتباعا للسنة نحى الحنفي قدمه حتى يضم قدميه ولا يبقى فرجة بينهما وأشمأز ونظر إلى صاحبه المحمدي شزرا، بل ربما نفر كالحمار الوحشي، ويعد صنيع أهل الحديث الذي هو اتباع للسنة وإحياءها من الجهل والجفاء والفظاظة والغلظة، فإنالله وإنا إليه راجعون، وعالمهم وعاميهم في ترك هذه السنة والاستنفار عنها سواء. قال صاحب فيض الباري (ج2:ص236) : المراد بالزاق المنكب بالمنكب عند الفقهاء الأربعة أن لا يترك في البين فرجة تسع فيها ثالثاً، قال ولم أجد عند السلف فرقاً بين حال الجماعة والانفراد في حق الفصل بين قدمي الرجل بأنهم كانوا يفصلون بين قدميهم في حال الجماعة أزيد من حال الانفراد. وهذه المسألة أوجدها غير المقلدين فقط، وليس عندهم إلا لفظ الإلزاق، وليت شعرى ماذا يفهمون من قولهم الباء- للالتصاق، ثم يمثلونه مررت بزيد، فهل كان مروره به متصلاً بعضه ببعض أم كيف معناه، ثم إن الأمر
الصفحة 5
550