كتاب مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (اسم الجزء: 5)

فأول شيء يبدأ به الصلاة، ثم ينصرف، فيقوم مقابل الناس، والناس جلوس على صفوفهم، فيعظهم،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ثم أشار إلى أن سبب ذلك سعة المسجد وضيق أطراف مكة، قال: فلو عمر بلد فكان مسجد أهله يسعهم في الأعياد لم أر أن يخرجوا منه، فإن كان لا يسعهم كرهت الصلاة فيه ولا إعادة، قال الحافظ: ومقتضى هذا أن العلة تدور على السعة والضيق لا لذات الخروج إلى الصحراء؛ لأن المطلوب حصول عموم الاجتماع، فإذا حصل في المسجد مع أفضليته كان أولى – انتهى. قال الشوكاني: وفيه أن كون العلة الضيق والسعة مجرد تخمين لا ينتهض للاعتذار عن التأسي به - صلى الله عليه وسلم - في الخرج إلى الجبنانة بعد الاعتراف بمواظبته - صلى الله عليه وسلم - على ذلك. وأما الاستدلال على أن ذلك هو العلة بفعل الصلاة في مسجد مكة فيجاب عنه باحتمال أن يكون ترك الخروج إلى الجبانة لضيق أطرف مكة لا للسعة في مسجدها – انتهى. والراجح عندي ما ذهب إليه الحنفية من أن الخروج إلى الصحراء أفضل ولو كان مسجد البلد واسعاً؛ لأنه قد واظب النبي - صلى الله عليه وسلم - على الخروج إلى الجبانة وترك المسجد، وكذلك الخلفاء بعده، ولا يترك النبي - صلى الله عليه وسلم - الأفضل مع قربه، ويتكلف فعل الناقص مع بُعده، ولا يشرع لأمته ترك الفضائل، ولأننا قد أمرنا باتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - والاقتداء به، ولا يجوز أن يكون المأمور به هو الناقص، ولم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى العيد بمسجده إلا من عذر كما سيأتي؛ ولأن هذا إجماع المسلمين، فإن الناس في كل عصر ومصر يخرجون إلى المصلى، فيصلون العيد في المصلى مع سعة المسجد وضيقه، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي في المصلى مع شرف مسجده، وصلاة النفل في البيت أفضل منها في المسجد مع شرفه. (فأول شيء يبدأ) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (به الصلاة) برفع "أول" على أنه مبتدأ، وقوله "الصلاة" خبره، ولفظ "أول" وإن كان نكرة فقد تخصص بالإضافة، والأولى جعل أول خبراً مقدماً والصلاة مبتدأ؛ لأنه معرفة وإن تخصص أول، فلا يخرج عن التنكير، وجملة "يبدأ به" في محل الجر صفة لشيء. وفيه أن السنة تقديم الصلاة على الخطبة، وسيأتي الكلام عليه مبسوطاً (ثم ينصرف) أي من الصلاة (فيقوم مقابل الناس) بكسر الباء حال أي مواجهاً لهم، وفي رواية ابن حبان: فينصرف إلى الناس قائماً في مصلاه، ولابن خزيمة في رواية مختصرة خطب يوم علي على رجليه، وهذا مشعر بأنه لم يكن إذ ذاك في المصلى منبر، وفيه أن السنة كون الخطبة على الأرض عن قيام في المصلى، والفرق بينه وبين المسجد أن المصلي يكون بمكان فيه فضاء فيتمكن من رؤيته كل من حضر بخلاف المسجد، فإنه يكون في مكان محصور فقد لا يراه بعضهم، ووقع في آخر الحديث ما يدل على أن أول من خطب الناس في المصلى على المنبر مروان، وسيأتي الكلام عليه في آخر الباب (والناس جلوس) جملة اسمية حالية، و"جلوس" جمع جالس (على صفوفهم) أي مستقبلين له على حالتهم التي كانوا في الصلاة عليها (فيعظهم) أي يخوفهم عواقب الأمور، وقيل: يذكرهم بالعواقب بشارة مرة، ونذارة

الصفحة 23