كتاب مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (اسم الجزء: 5)
الجمهور، كما قال النووي.، قالوا كان ذلك معروفاً من العرب، فإنهم كانوا يوصون أهليهم بالبكاء والنوح عليهم، وهو موجود في أشعارهم، كقول طرفة بن العبد:
إذا مت فابكيني بما أنا أهله ... وشق علي الجيب يا ابنة معبد
ومثل هذا كثير في أشعارهم، وإذا كان كذلك فالميت إنما تلزمه العقوبة بما تقدم في ذلك من أمره إياهم بذلك وقت حياته، واعترض بأن ذنب الميت الأمر بذلك، فلا يختلف عذابه بامتثالهم وعدمه وأجيب بأن الذنب على السبب يعظم بوجود المسبب. شاهده حديث: من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها. الثامن: أنه فيمن لم يوص بتركه، فتكون الوصية بذلك واجبة إذا علم أن من شأن أهله أن يفعلو ذلك، وهو قول داود وطائفة. قال ابن المرابط: إذا علم المرء ما جاء في النهي عن النوح، وعرف أن أهله من شأنهم أن يفعلوا ذلك، ولم يعلمهم بتحريمه ولا زجرهم عن تعاطيه، فإذا عذب على ذلك عذب بفعل نفسه لا بفعل غيره بمجرده. التاسع: أن المراد بالتعذيب توبيخ الملائكة بما يندبه أهله به، كما روى أحمد من حديث أبي موسى مرفوعاً: الميت يعذب ببكاء الحي، إذا قالت النائحة: وا عضداه، وا ناصراه، وا كاسياه، جبذ الميت. وقيل له: أنت عضدها، أنت ناصرها، أنت كاسيها. ورواه ابن ماجه بلفظ: يتعتع به، ويقال: أنت كذلك. ورواه الترمذي بلفظ آخر كما سيأتي. وشاهده حديث النعمان بن بشير، وسيأتي أيضاً. العاشر: معنى التعذيب تألم الميت مما يقع من أهله من النياحة وغيرها، وهذا اختيار أبي جعفر الطبري وابن المرابط وعياض ومن تبعه، ونصره ابن تيمية وجماعة من المتأخرين، واستدلوا لذلك بما أخرجه ابن أبي خيثمة وابن أبي شيبة، والطبراني وغيرهم من حديث قَبْلَة، وفيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فوالذي نفسي بيده إن أحدكم ليبكي فيسعتبر إليه صويحبه، فيا عباد الله! لا تعذبوا موتاكم. قال الحافظ: هو حسن الإسناد. قال الطبراني: ويؤيده ما قال أبوهريرة: إن أعمال العباد تعرض على أقربائهم من موتاهم ثم ساقه بإسناد صحيح إليه، وشاهده حديث النعمان بن بشير مرفوعاً، أخرجه البخاري في تاريخه، وصححه الحاكم. قال ابن المرابط: حديث قيلة نص في المسألة فلا يعدل عنه واعترضه ابن رشيد بأنه ليس نصاً، وإنما هو محتمل، فإن قوله "فيستعير إليه صويحبه" ليس نصاً في أن المراد به الميت، بل يحتمل أن يراد به صاحبه الحي، وأن الميت يعذب حينئذٍ ببكاء الجماعة عليه. الحادي عشر: أن المراد التعذيب بالصفات التي يبكون بها عليه، وهي مذمومة شرعاً، كما كان أهل الجاهلية يقولون: يأمر مل النسوان، يا مُيَتّم الأولاد، يا مخرب الدور. قال الحافظ: ومن وجوه الجمع أن معنى قوله: يعذب ببكاء أهله عليه أن بنظير ما يبكيه أهله به، وذلك أن الأفعال التي يعدون بها عليه غالباً تكون من الأمور المنهية، فهم يمدحونه بها، وهو يعذب بصنيعه ذلك، وهو عين ما يمدحونه، وهذا إختيار ابن حزم وطائفة. واستدل له بحديث ابن عمر يعني الذي
الصفحة 484
560