كتاب مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (اسم الجزء: 5)

1778- (2) وعن أبي هريرة، قال: ((زار النبي - صلى الله عليه وسلم - قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، فقال: استأذنت ربي في أن أستغفر لها، فلم يؤذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1778- قوله: (زار النبي - صلى الله عليه وسلم - قبر أمه) أي بالأبواء بين مكة والمدينة، وذلك كان عام الفتح. قال القاضي عياض: سبب زيارته - صلى الله عليه وسلم - قبرها أنه قصد قوة الموعظة والذكرى بمشاهدة قبرها. ويؤيده قوله - صلى الله عليه وسلم - في آخر الحديث: فزوروا القبور، فإنها تذكر الموت. وقيل: زيارته - صلى الله عليه وسلم - قبرها مع أنها كافرة تعليم منه للأمة حقوق الوالدين والأقارب، فإنه لم يترك قضاء حقها مع كفرها. (فبكى) قال القاضي: بكاؤه - صلى الله عليه وسلم - على ما فاتها من إدراكه والإيمان به. وقيل: على عذابها، وفيه دليل على جواز البكاء عند حضور المقابر. (فلم يؤذن لي) قال ابن الملك: لأنها كافرة، والاستغفار للكافرين لا يجوز؛ لأن الله لا يغفر لهم أبداً. وقال الشوكاني: فيه دليل على عدم جواز الاستغفار لمن مات على غير ملة الإسلام. وقال النووي: فيه النهي عن الاستغفار للكفار. (فأذن لي) بصيغة المجهول مراعاة لقوله: "فلم يؤذن لي"، ويجوز أن يكون بصيغة الفاعل. قال النووي: فيه جواز زيارة المشركين في الحياة وقبورهم بعد الوفاة؛ لأنه إذا جازت زيارتهم بعد الوفاة، ففي الحياة أولى، وقد قال الله تعالى: {وصاحبهما في الدنيا معروفاً} [لقمان:15] انتهى. قلت: الحديث بظاهره يدل على أن أمه - صلى الله عليه وسلم - ماتت على غير الإسلام، وهو مذهب جمهور العلماء في شأن أبويه - صلى الله عليه وسلم -، وقد ترجم النسائي وابن ماجه لهذا الحديث "باب زيارة قبر المشرك". قال السندي في حاشية النسائي: كأنه أخذ ما ذكر في الترجمة من المنع عن الاستغفار، أو من مجرد أنه الظاهر على مقتضى وجودها في وقت الجاهلية، لا من قوله: بكى وأبكى، إذ لا يلزم من البكاء عند الحضور في ذلك المحل العذاب أو الكفر، بل يمكن تحققه مع النجاة والإسلام أيضاً، لكن من يقول بنجاة الوالدين لهم ثلاث مسالك في ذلك: مسلك أنهما ما بلغتهما الدعوة، ولا عذاب على من لم تبلغه الدعوة؛ لقوله تعالى: {وما كنا معذبين} [الإسراء:15] الخ، فلعل من سلك هذا المسلك يقول في تأويل الحديث: إن الاستغفار فرع تصور الذنب لهم، وذلك في أوان التكليف، ولا يعقل ذلك فيمن لم تبلغه الدعوة، فلا حاجة إلى الاستغفار لهم، فيمكن أنه ما شرع الاستغفار إلا لأهل الدعوة لا لغيرهم، وإن كانوا ناجين. وأما من يقول بأنهما أحييا له - صلى الله عليه وسلم - فآمنا به، فيحمل هذا الحديث على أنه كأنه قبل الإحياء. وأما من يقول بأنه تعالى يوفقهما للخير عند الامتحان يوم القيامة، فهو يقول بمنع الاستغفار لهما قطعاً، فلا حاجة له إلى تأويل، فاتضح وجه الحديث على جميع المسالك-انتهى كلام السندي. ولا يخفى ما في الوجوه الثلاثة من الضعف؛ لأن حديث إحياء أبويه - صلى الله عليه وسلم - ضعيف جداً، حتى حكم عليه بعض الأئمة بالوضع كالدارقطني والجوزقاني وابن الجوزي وابن دحية، وصرح بضعفه فقط غير واحد كابن شاهين والخطيب وابن عساكر والسهلي والمحب الطبري وابن سيد الناس، وقد اعترف

الصفحة 512