كتاب مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (اسم الجزء: 7)

قلت اختلف العلماء في صيام الدهر فذهب إسحاق وأهل الظاهر إلى كراهته مطلقا، أي وإن أفطر الأيام الخمسة المنهي عنها، وهي رواية عن أحمد. قال الأثرم: قيل وأهل لأبي عبد الله يعني الإمام أحمد، فسر مسدد قول أبي موسى من صام الدهر ضيقت عليه جهنم، أي فلا يدخلها فضحك وقال من قال هذا؟ فأين حديث عبد الله بن عمرو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كره ذلك، وما فيه من الأحاديث كذا في المغنى (ج3ص67) وقال ابن حزم: لا يحل صوم الدهر أصلاً يعني أنه يحرم، وإلى الكراهة مطلقاً ذهب ابن العربي من المالكية فقال قوله "لا صام من صام الأبد" (في حديث عبد الله بن عمرو) إن كان معناه الدعاء فياويح من أصحابه دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن كان معناه الخير فياويح من أخبر عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يصم وإذا لم يصم شرعاً لم يكتب له الثواب، لوجوب صدق قوله صلى الله عليه وسلم لأنه نفي عنه الصوم، وقد نفي عنه الفضل كما تقدم، فكيف يطلب الفضل فيما نفاه النبي - صلى الله عليه وسلم - انتهى. وإلى الكراهة ذهب أيضاً ابن قدامة كما سيأتي، وابن القيم كما في الهدي (ج1ص174) والحنفية كما في مراقي الفلاح حيث قال يكره صوم الدهر لأنه يضعفه أو يصير طبعا له، ومبني العبادة على خلاف العادة-انتهى. وهكذا في البرهان وفتح القدير وغيرهما. وقال في البدائع قال بعض الفقهاء: من صام سائر الأيام وأفطر يوم الفطر والأضحى وأيام التشريق لا يدخل تحت النهي، ورد عليه أبويوسف فقال: ليس هذا عندي كما قال والله أعلم. هذا قد صام الدهر كأنه أشار إلى أن النهي عن صوم الدهر ليس لمكان صوم هذه الأيام بل لما يضعفه عن الفرائض والواجبات ويقعده عن الكسب، ويؤدي إلى التبتل المنهي عنه والله أعلم-انتهى. واستدل للكراهة والمنع بقوله صلى الله عليه وسلم "لا صام ولا أفطر" وقد تقدم وجه الاستدلال به في كلام الشوكاني وابن العربي والجزري وغيرهم. وقد روى مثل هذا مرفوعا عن جماعة من الصحابة، منهم عبد الله ابن الشيخر عند أحمد والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وعمران بن حصين عند النسائي والحاكم، وابن عمر عند النسائي واستدل أيضاً لذلك بقصة عبد الله بن عمرو التي أشار إليها الشوكاني. قال ابن التين: استدل على كراهة صوم الدهر من هذه القصة من أوجه نهيه صلى الله عليه وسلم عن الزيادة على صوم نصف الدهر، وأمره بأن يصوم ويفطر وقوله: لا أفضل من ذلك" ودعاءه على من صام الأبد-انتهى. وبحديث أنس الذي أشار إليه الشوكاني مع وجه الاستدلال منه. وبحديث رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال قيل: للنبي - صلى الله عليه وسلم - رجل يصوم الدهر، قال وددت أنه لم يطعم الدهر شيئا-الحديث. أخرجه النسائي. قال السندي: أي وددت أنه ما أكل ليلا ولا نهارا حتى مات جوعا، والمقصود بيان كراهة عمله وأنه مذموم العمل حتى يتمنى له الموت بالجوع. وبحديث أبي موسى رفعه من صام الدهر ضيقت عليه جهنم هكذا وقبض كفه، أخرجه أحمد والنسائي وابن خزيمة وابن حبان والبيهقي (ج4ص300) وابن أبي شيبة والبزار ولفظ ابن حبان والبزار والبيهقي ضيقت عليه جهنم هكذا وعقد تسعين، وأخرجه أيضاً الطبراني. قال الهيثمي (ج3ص193) رجاله رجال الصحيح.

الصفحة 55