كتاب مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (اسم الجزء: 7)

قال: كيف من يصوم يوماً ويفطر يوما؟ قال: "ذلك صوم داود" قال: كيف من يصوم يوماً ويفطر يومين؟ قال: وددت أني طُوِّقت ذلك. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رمضان إلى رمضان، فهذا صيام الدهر كله.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
واختلف المجيزون لصيام الدهر بالشرط المتقدم هل هو أفضل أو صيام يوم وإفطار يوم أفضل، فذهب جماعة منهم إلى أن صوم الدهر أفضل. واستدلوا على ذلك بأنه أكثر عملاً فيكون أكثر أجرا، وتعقبه ابن دقيق العيد بأن زيادة الأجر بزيادة العمل ههنا معارضة باقتضاء العادة التقصير في حقوق أخرى، فالأولى التفويض إلى حكم الشارع، وقد حكم بأن صوم يوم، وإفطار يوم أفضل الصيام، هذا معنى كلامه محصلا. وذهب جماعة منهم المتولي من الشافعية إلى أن صيام داود أفضل، وهو ظاهر الحديث بل صريحه وارجع للبسط والتفصيل إلى الفتح وشرح العمدة (ويطيق ذلك أحد) بحذف حرف الإنكار، وقد ثبت في رواية أبي داود والنسائي، ووقع في رواية لمسلم، ومن يطيق ذلك وكأنه كرهه لأنه مما يعجز عنه في الغالب فلا يرغب فيه في دين سهل سمح، وهو عطف على محذوف أي أتقول ذلك ويطيق ذلك أحد (قال ذلك صوم داود) أي وصوم داود أفضل الصيام وأحبه إلى الله وكأنه تركه لتقرير ذلك مرارا (وددت) بكسر الدال أي أحببت (إني طوقت) بتشديد الواو على بناء المفعول أي جعلني الله مطيقا (ذلك) أي الصيام المذكور يعني تمنيت أن يجعل ذلك داخلا في قدرتي وكان قادرا، ولكن خاف فوات حقوق نساءه فإن إدامة الصوم يخل بحظوظهن منه إلا فكان يطيق أكثر منه فإنه كان يواصل وعلى هذا معنى قوله "وددت إني طوقت" أي مع أداء حقوق النساء. قال الخطابي: يحتمل أن يكون إنما خاف العجز عن ذلك للحقوق التي تلزمه لنساءه لأن ذلك يخل بحظوظهن منه لا لضعف جبلته عن احتمال الصيام أو قلة صبره عن الطعام في هذه المدة-انتهى. وقيل: معناه وددت إن أمتي تطيقه لأنه صلى الله عليه وسلم كان يطيقه وأكثر منه وكان يواصل، ويقول إني لست كأحدكم إني أبيت، يطعمني ربي ويسقيني. قال النووي: ويؤيد هذا التأويل قوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الثانية ليت إن الله قوانا لذلك أو يقال إنما قاله لحقوق نسائه وغيرهن من المسلمين المتعلقين والقاصدين إليه-انتهى. وقيل: يمكن أن يكون الإطعام والسقي من الرب تبارك وتعالى مختصاً بصوم الوصال دون غيره من الصيام (ثلاث من كل شهر) أي صوم الإنسان ثلاثة أيام من كل شهر، قيل هو أيام البيض، وقيل أي ثلاث كان وأيام البيض أولى، وثلاث بحذف التاء ولو قال ثلاثة بالهاء لكان صحيحاً لأن المعدود المميز إذا كان غير مذكور لفظا جاز تذكير مميزه وتأنيثه، يقال صمنا ستاً وستة وخمساً وخمسة. وإنما يلزم إثبات الهاء مع المذكر إذا كان مذكورا لفظا. وحذفها من المؤنث إذا كان كذلك وهذه قاعدة مسلوكة صرح بها أهل اللغة وأئمة الإعراب كذا في النيل. وقال القاري: حذف التاء منها نظرا إلى لفظ المميز فإنه مؤنث.

الصفحة 59