كتاب مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (اسم الجزء: 7)

وحينئذٍ فالأولوية المذكورة محمولة على من يضعفه الصوم عن الجهاد. أما من لم يضعفه فالصوم في حقه أفضل لأنه يجمع بين الفضيلتين. قال ابن دقيق العيد: العرف الأكثر استعماله في الجهاد، فإن حمل عليه كانت الفضيلة لاجتماع العبادتين. قال: ويحتمل أن يراد بسبيل الله طاعته كيف كانت، والمراد من صام قاصداً وجه الله، والأول أقرب، ولا يعارض ذلك أن الفطر في الجهاد أولى، لأن الصائم يضعف عن اللقاء، لأن الفضل المذكور محمول على من لم يخش ضعفا، ولا سيما من اعتاد به فصار ذلك من الأمور النسبية فمن لم يضعفه الصوم عن الجهاد فالصوم في حقه أفضل ليجمع بين الفضيلتين (بعد الله) بتشديد العين هذا لفظ البخاري وفي مسلم باعد أي من المباعدة (وجهه) أي ذاته كلها (عن النار سبعين خريفاً) أي مقدار مسافة سبعين عاماً يعني أنها مسافة لا تقع إلا بسير سبعين عاماً، وهو كناية عن حصول البعد العظيم. قال في النهاية: الخريف الزمان المعروف ما بين الصيف والشتاء، ويراد به السنة، لأن الخريف لا يكون في السنة إلا مرة واحدة، فإذا انقضى الخريف انقضى السنة. قال الطيبي: وإنما خص بالذكر دون سائر الفصول لأنه زمان بلوغ حصول الثمار وحصاد الزرع وسعة العيش. وقال الحافظ: الخريف، زمان معلوم من السنة، والمراد به هنا العام وتخصيص الخريف بالذكر دون بقية الفصول الصيف والشتاء والربيع، لأن الخريف أزكى الفصول لكونه يجنى فيه الثمار-انتهى. وعند أبي يعلى من طريق زبان بن فائد عن معاذ بن أنس بعد من النار مائة عام سير المضمر الجواد، وعند الطبراني في الكبير والأوسط بإسناد لا بأس به عن عمرو بن عبسة بعدت منه النار مسيرة مائة عام، ورواه في الكبير من حديث أبي أمامة إلا أنه قال فيه بعد الله وجهه عن النار مسيرة مائة عام ركض الفرس الجواد المضمر، ورواه النسائي من حديث عقبة لم يقل فيه ركض الفرس إلى آخره وفي كامل ابن عدي عن أنس تباعدت منه جهنم خمسمائة عام، وفي حديث أبي أمامة عند الترمذي جعل الله بينه وبين النار خندقاً كما بين السماء والأرض. وفي حديث سلامة بن قيصر عند الطبراني في الكبير كبعد غراب طار، وهو فرخ حتى مات هرما. قيل: ظاهر هذه الأحاديث التعارض، وأجيب بأن الاعتماد على رواية سبعين فإنها أصح الروايات لاتفاق الشيخين عليها فما في الصحيح أولى، أو أن الله تعالى أعلم نبيه صلى الله عليه وسلم بالأدنى ثم بما بعده على التدريج أو أن ذلك بحسب إختلاف أحوال الصائمين في كمال الصوم ونقصانه، أو ورد ذكر السبعين لإرادة التكثير أو المراد بالتبعيد كما قال النووي وغيره المعافاة عن النار وسلامته من عذابها، لا البعد بهذه المسافة. وفي الحديث دلالة على فضيلة الصوم في الجهاد ما لم يضعف بسببه عن قتال عدوه وكأن فضيلة ذلك لأنه جمع بين جهاد نفسه في طعامه وشرابه وشهوته وجهاد عدوه (متفق عليه) واللفظ للبخاري أخرجه في الجهاد وأخرجه مسلم في الصوم، وفي رواية له ما من عبد يصوم يوماً في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً، وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي في الجهاد والنسائي وابن ماجه والبيهقي في الصوم.

الصفحة 78