كتاب مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (اسم الجزء: 9)

.............................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أقول هذا هو الظاهر من سياق الحديث وسباقه، والله تعالى أعلم. وقال الحافظ: وتعقب أي كلام النووي بأن سياق السؤال يقوي هذا التأويل، بل الظاهر أن السؤال وقع عن الفسخ، والجواب وقع عما هو أعم من ذلك حتى يتناول التأويلات الثلاثة المذكورة - انتهى. وقيل: معنى دخولها في الحج سقوط وجوب العمرة بوجوب الحج. قال النووي: وسياق الحديث يقتضي بطلان هذا التأويل. قلت: حديث جابر هذا صريح في أن سؤال سراقة عن فسخ الحج إلى العمرة وجواب النبي - صلى الله عليه وسلم - له يدل على تأييد مشروعيته كما ترى، لأن الجواب مطابق للسؤال، ومعنى فسخ الحج إلى العمرة أن من أحرم بالحج مفردًا أو قارنًا ولم يسق الهدي وطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة قبل الوقوف بعرفة، له أن يفسخ نيته بالحج وينوي عمرة مفردة فيقصر ويحل من إحرامه ليصير متمتعًا، وقد اختلف العلماء في هذا الفسخ هل هو خاص بالصحابة تلك السنة خاصة أم باق ولغيرهم إلى يوم القيامة؟ فقال أحمد والظاهرية وعامة أهل الحديث: ليس خاصًا بل هو باق إلى يوم القيامة، فيجوز لكل من أحرم بحج مفردًا أو قارنًا وليس معه هدي أن يقلب إحرامه عمرة، ويتحلل بأعمالها. وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وجماهير العلماء من السلف والخلف: هو مختص بهم في تلك السنة لا يجوز بعدها، وإنما أمروا به تلك السنة ليخالفوا ما كانت عليه الجاهلية من تحريم العمرة في أشهر الحج، واستدل للجمهور بحديث أبي ذر عند مسلم: ((قال كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - خاصة)) . وفي رواية قال: ((كانت لنا رخصة)) . يعني المتعة في الحج. ومراد أبي ذر بالمتعة المذكورة المتعة التي أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بها أصحابه، وهي فسخ الحج إلى العمرة، واستدلوا على أن الفسخ المذكور هو مراد أبي ذر رضي الله عنه بما رواه أبو داود بسنده أن أبا ذر كان يقول في من حج ثم فسخها بعمرة لم يكن ذلك إلا للركب الذين كانوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالوا: فهذه الرواية فيها التصريح من أبي ذر بفسخ الحج في العمرة، وهي تفسر مراده بالمتعة في رواية مسلم. وضعفت رواية أبي داود هذه بأن في سنده محمد ابن إسحاق وهو مدلس، وقد رواه عن عبد الرحمن بن الأسود بالعنعنة، وعنعنة المدلس لا تقبل عند أهل الحديث حتى يصح السماع عن طريق أخرى. وأجيب عن تضعيف هذه الرواية بوجهين، الأول: أن مشهور مذهب مالك وأحمد وأبي حنيفة صحة الاحتجاج بالمرسل، ومعلوم أن من يحتج بالمرسل يحتج بعنعنة المدلس من باب أولى، والثاني: أن المقصود من رواية أبي داود المذكورة بيان المراد برواية مسلم، والبيان يقع بكل ما يزيل الإبهام ولو قرينة أو غيرها كما هو مقرر في الأصول، واستدل أيضًا للجمهور القائلين بأن الفسخ المذكور خاص بذلك الركب وتلك السنة بما رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة والدارمي من طريق ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن الحارث بن بلال بن الحارث عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسخ الحج لنا خاصة أم للناس عامة؟ قال: " بل لكم خاصة ". ورد المجوزون للفسخ استدلال الجمهور بالحديثين المذكورين من جهتين: الأولى: تضعيف الحديثين المذكورين، قالوا: حديث بلال بن الحارث فيه ابنه الحارث ابن بلال وهو مجهول. وقال أحمد: حديث بلال بن الحارث عندي ليس يثبت ولا

الصفحة 13