كتاب نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم (اسم الجزء: المقدمة)

الشرع الشريف ويتضح لكل ذي قلب سليم أنه دين سماوي جاء بتحصيل المصالح وتكميلها وإلغاء المفاسد وتقليلها. كما أنه أيضا تعرض لشرح الآداب والأخلاق الرفيعة وحثّ على الاتصاف بالسمات الشريفة التى فطرت القلوب على استحسانها وحب من تخلق بها والنفور من أضدادها ومقت أهلها وبغضهم والبعد عنهم، فإن الله تعالى فطر الخلق على استحسان السمات الطيبة التي وجدت أو بعضها قبل الإسلام كأغلب خصال الفطرة التي ذكرها النبي صلّى الله عليه وسلّم بقوله: «عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة وانتقاص الماء ... إلخ» «1» وفي الباب أحاديث كثيرة بهذا المعنى وهذه الخصال يستسيغها العقل السليم ويشهد بملاءمتها له لذلك يحافظ العقلاء على تطبيقها، وإنما يخالفها من انتكست فطرته فاستقبح الحسن واستلذ القبيح فلا عبرة بهذا الضرب من الناس ولو كثروا أو زعموا المعرفة والإدراك، فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور، وبالجملة فإن احتواء الشريعة الإسلامية على هذه الخصال يفيد كمالها وانتظامها لكل ما يستحسن عقلا وشرعا ولكل ما تتوقف عليه الحياة الطيبة في هذه الدار، كما أن الشريعة لم تتوقف على تبيين العبادات والقربات كما قد يظن ذلك الكثير من الناس؛ بل تعرضت لإيضاح الأمور العادية وأوضحت الصفة الكاملة لاستعمالها، ففي باب الأكل تعرض الشرع لبيان الهيئة المحمودة في ذلك؛ فنهي عن الاتكاء حال الأكل كفعل من يريد الامتلاء من الطعام، وشرع الأكل باليمين تفاؤلا باليمن والبركة، وبالغ في النهي عن الأكل بالشمال تشبها بالشيطان وأعوانه، كما جاء بالأكل بثلاثة أصابع إلا لضرورة. فإن الأكل باليد كلها قد يوجب ترادف الطعام على مجراه فربما أفسده وسبب الموت فجأة، وذلك من باب رعاية نعم الله وإحسان جوارها، وهكذا شرع أن يأكل كل فرد مما يليه ونهى عن الأكل من وسط الصحفة، وعلل ذلك بأن البركة تنزل وسط الطعام، كما أمر بالاجتماع على الطعام وذكر اسم الله عليه وحمده بعد الشبع، ونحو ذلك مما فيه تذكير بعظيم منة الله في تيسيره لأسباب ذلك، ومما يسبب مع الصدق حلول البركة فيه حالا ومآلا، وهكذا جاء بآداب الشّرب المتضمنة لجمّ فوائده والمستحسنة عقلا وشرعا، فنهى عن التنفس في الشراب والنفخ في الطعام كراهة أن يصحبه شيء من الريق فيقذره على غيره، وأمر بالتنفس ثلاثا خارج الإناء، وبمص الشرب دون العب بقوة، وعلل ذلك بأنه أهنأ وأبرأ وتعرض للأواني التي لا يباح استعمالها في الأكل والشرب كآنية الذهب والفضة وتوعد متعاطيها أشد الوعيد لما فيها من الفخر والخيلاء والإسراف وكسر قلوب الفقراء، وهكذا شرع للأمة آداب التخلي «2» وإن كانت مما يحتشم من ذكره، ومن الأشياء التي تلزم الإنسان بحكم العادة ولكن لها آداب وأحكام تدخل بها في عموم الشريعة الإسلامية، وكذا آداب اللبس والخلع فجاء باستحباب لبس البياض من الثياب وأباح غيرها إلا ما استثنى، وأحب لباس القمص ولبس غيره من الأزر والأردية والسراويلات ونحوها، ونهى عن الخيلاء والإسبال في الثياب وبالغ في الوعيد على أهل الخيلاء والترفع على الناس، وأحب أن يرى الله آثار نعمته على عبده في اللباس ونحوه، ونهى عن المشي في نعل واحدة، وحث على التيامن في لباس الثوب والنعل ونحو ذلك وحرم أنواعا من اللباس كالحرير لما فيها من الإسراف والتبذير، وتعجل الطيبات في الدنيا،
__________
(1) أخرجه مسلم ربك (261) في الطهارة: باب خصال الفطرة عن عائشة رضي الله عنها.
(2) أي الآداب المتعلقة بقضاء الحاجة من التبول ونحوه.

الصفحة 48