كتاب نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم (اسم الجزء: 2-11)
أمر عرفه من أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأن قد جعل الله بالنّاس كلّهم الحاجة إليه في دينهم، وأقام عليهم حجّته بما دلّهم عليه من سنن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معاني ما أراد الله بفرائضه في كتابه، ليعلم من عرف منها ما وصفنا أنّ سنّته صلّى الله عليه وسلّم إذا كانت سنّة مبيّنة عن الله معنى ما أراد من مفروضه فيما فيه كتاب يتلونه، وفيما ليس فيه نصّ كتاب سنّة أخرى فهي كذلك لا يختلف حكم الله ثمّ حكم رسوله، بل هو لازم بكلّ حال «1» .
وقال الشّاطبيّ- رحمه الله تعالى-: الكتاب (أي القرآن) هو المتّبع على الحقيقة، ومراتب النّاس بحسب اتّباعهم له. إنّ الله تعالى وضع هذه الشّريعة حجّة على الخلق كبيرهم وصغيرهم، مطيعهم وعاصيهم، برّهم وفاجرهم. لم يختصّ بها أحدا دون أحد، وكذلك سائر الشّرائع إنمّا وضعت لتكون حجّة على جميع الأمم الّتي تنزّل فيهم تلك الشّرائع، حتّى إنّ المرسلين بها صلوات الله عليهم داخلون تحت أحكامها.
فأنت ترى أنّ نبيّنا محمّدا صلّى الله عليه وسلّم مخاطب بها في جميع أحواله وتقلّباته ممّا اختصّ به دون أمّته، أو كان عامّا له ولأمّته- فالشّريعة هي الحاكمة على الإطلاق والعموم عليه وعلى جميع المكلّفين، وهي الطّريق الموصّل والهادي الأعظم. ألا ترى إلى قوله تعالى:
وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا (الشورى/ 52) . فهو عليه الصّلاة والسّلام أوّل من هداه الله بالكتاب والإيمان، ثمّ من اتّبعه فيه، والكتاب هو الهادي، والوحي المنزّل عليه مرشد ومبيّن لذلك الهدى، والخلق مهتدون بالجميع. ولمّا استنار قلبه وجوارحه عليه الصّلاة والسّلام وباطنه وظاهره بنور الحقّ علما وعملا، صار هو الهادي الأوّل لهذه الأمّة والمرشد الأعظم، حيث خصّه الله تعالى دون الخلق بإنزال ذلك النّور عليه، واصطفاه من جملة من كان مثله في الخلقة البشريّة اصطفاء أوّليّا من جهة اختصاصه بالوحي الّذي استنار به قلبه وجوارحه فصار خلقه القرآن، حتّى قال الله فيه: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ وذلك لأنّه حكّم الوحي على نفسه حتّى صار في علمه وعمله على وفقه واقفا عند حكمه، فقد جاء بالأمر وهو به مؤتمر، وبالنّهي وهو منته وبالوعظ وهو متّعظ، وبالتّخويف وهو أوّل الخائفين، وبالتّرجية وهو سائق دابّة الرّاجين، وقد صارت الشّريعة المنزّلة عليه حجّة حاكمة عليه، ودلالة على الصّراط المستقيم الّذي سار عليه، فإذا كان الأمر كذلك، فسائر الخلق حريّون بأن تكون الشّريعة حجّة حاكمة عليهم، ومنارا يهتدون بها إلى الحقّ، وشرفهم إنّما يثبت بحسب ما اتّصفوا به من الدّخول تحت أحكامها، والأخذ بها قولا واعتقادا وعملا، فمن كان أشدّ محافظة على اتّباع الشّريعة فهو أولى بالشّرف والكرم، ومن كان دون ذلك لم يمكن أن يبلغ في الشّرف المبلغ الأعلى في اتّباعها، فالشّرف إذا إنّما هو بحسب المبالغة في تحكيم الشّريعة «2» .
__________
(1) الرسالة للشافعي (85- 105) بتصرف.
(2) الاعتصام (2/ 338- 340) باختصار.
الصفحة 12
5730