كتاب نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم (اسم الجزء: 2-11)
بيده لأقاتلنّهم على أمري هذا حتّى تنفرد سالفتي «1» ، ولينفذنّ الله أمره» . فقال بديل: سأبلّغهم ما تقول.
قال: فانطلق حتّى أتى قريشا، قال: إنّا جئناكم من هذا الرّجل، وسمعناه يقول قولا، فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا. فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تخبرونا عنه بشيء. وقال ذوو الرّأي منهم: هات ما سمعته يقول. قال: سمعته يقول: كذا وكذا. فحدّثهم بما قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم. فقام عروة بن مسعود فقال: أي قوم، ألستم بالوالد؟ قالوا: بلى. قال: أو لست بالولد؟ قالوا:
بلى. قال: فهل تتّهموني؟ قالوا: لا. قال: ألستم تعلمون أنّي استنفرت أهل عكاظ، فلمّا بلّحوا «2» عليّ جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني؟ قالوا: بلى.
قال: فإنّ هذا قد عرض عليكم خطّة رشد اقبلوها ودعوني آته. قالوا ائته، فأتاه، فجعل يكلّم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم نحوا من قوله لبديل. فقال عروة عند ذلك: أي محمّد، أرأيت إن استأصلت أمر قومك، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الأخرى، فإنّي والله لا أرى وجوها، وإنّي لأرى أشوابا «3» من النّاس خليقا أن يفرّوا ويدعوك. فقال له أبو بكر: امصص بظر اللّات «4» ، أنحن نفرّ عنه وندعه. فقال: من ذا؟
قالوا: أبو بكر. قال: أما والّذي نفسي بيده، لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك. قال: وجعل يكلّم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فكلّما تكلّم كلمة أخذ بلحيته، والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ومعه السّيف وعليه المغفر، فكلّما أهوى عروة بيده إلى لحية النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ضرب يده بنعل السّيف، وقال له: أخّر يدك عن لحية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فرفع عروة رأسه، فقال: من هذا؟. قال: المغيرة بن شعبة. فقال: أي غدر «5» ، ألست أسعى في غدرتك؟. وكان المغيرة صحب قوما في الجاهليّة فقتلهم وأخذ أموالهم ثمّ جاء فأسلم.
فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم «أمّا الإسلام فأقبل، وأمّا المال فلست منه في شيء» . ثمّ إنّ عروة جعل يرمق أصحاب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعينيه. قال: فو الله ما تنخّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نخامة إلّا وقعت في كفّ رجل منهم فدلّك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضّا كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلّموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدّون إليه النّظر تعظيما له، فرجع عروة إلى أصحابه، فقال: أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنّجاشيّ، والله، إن رأيت مليكا قطّ يعظّمه أصحابه ما يعظّم أصحاب محمّد صلّى الله عليه وسلّم محمّدا. والله، إن يتنخّم نخامة إلّا وقعت في كفّ رجل منهم، فدلّك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضّأ
__________
(1) سالفتي: السالفة هي صفحة العنق. والمعنى من قوله حتى تنفرد سالفتي كناية عن القتل أو القتال وحيدا.
(2) بلّحوا: التبلّح هو الامتناع عن الإجابة: وبلحوا بمعني امتنعوا عن أداء ما عليهم.
(3) الأشواب: الأخلاط من أنواع شتى.
(4) امصص بظر اللات: البظر قطعة تبقى بعد الختان في فرج المرأة واللات: صنم لهم، وكانت عادة العرب الشتم بذلك لكن بلفظ الأم فأراد أبو بكر المبالغة في سب عروة بإقامة من كان يعبد مقام أمه.
(5) غدر: من غادر وهي مبالغة في وصفه بالغدر.
الصفحة 30
5730