كتاب نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم (اسم الجزء: 2-11)
الصّحيحين: «أنّ امرأة بغيّا رأت كلبا يلهث من العطش، يأكل الثّرى، فنزعت خفّها وأدلته في بئر، ونزعت فسقته فغفر الله لها» ، وفي الحديث الشّريف «إنّا لله كتب الإحسان على كلّ شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذّبحة» رواه مسلم.
فإلى حقيقة الإحسان ترجع أصول وفروع وآداب المعاشرة كلّها في المعاملة والصّحبة، والعفو عن الحقوق الواجبة من الإحسان لقوله تعالى: وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (آل عمران/ 134) «1» .
ويقول ابن قيّم الجوزيّة ما خلاصته: الإحسان على ثلاث درجات:
الدّرجة الأولى: الإحسان في القصد بتهذيبه علما وإبرامه عزما وتصفيته حالا.
الدّرجة الثّانية: الإحسان في الأحوال وهو أن تراعيها غيرة، وتسترها تظرّفا، وتصحّحها تحقيقا، والمراد بمراعاتها: حفظها وصونها غيرة عليها أن تحوّل فإنّها تمرّ مرّ السّحاب، وتكون المراعاة أيضا بدوام الوفاء وتجنّب الجفاء ...
الدّرجة الثّالثة: الإحسان في الوقت وهو ألّا تزايل المشاهدة أبدا، ولا تخلط بهمّتك أحدا، والمعنى في ذلك أن تتعلّق همّتك بالحقّ وحده، ولا تعلق همّتك بأحد غيره ... «2»
القيمة التربوية للإحسان:
قال أحد المعاصرين: الإحسان من عناصر التّربية الواعية نأخذه من قوله تعالى: وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (البقرة/ 195) ، والإحسان في صورته العليا صفة ربّ العالمين، لأنّ الإساءة تنتج عن الجهل والعجز والقصور وما إلى ذلك من أوصاف مستحيلة على الله تعالى. إنّه سبحانه تحدّث عن صنعه للكون الكبير، فقال: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (النمل/ 88) ، وطلب إلى النّاس أن يفتّشوا عن مأخذ في هذه الصّناعة يشينها، وهيهات ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ* ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (الملك/ 3- 4) سبحانه من خالق أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (السجدة/ 7) ، والله سبحانه عند ما نشر أبناء آدم فوق الثّرى، وناط بهم رسالة الحياة، كلّفهم- كي يكونوا ربّانيّين- أن يحسنوا العمل، وأن يبلغوا به درجة الكمال، وإذا غلبتهم طباعهم الضّعيفة فلم يصلوا إلى هذا الشّأن كرّروا المحاولات، ولم يستريحوا إلى نقص أو قصور، وعليهم أن يجاهدوا حتّى يبلغوا بأعمالهم درجة الكمال المستطاع، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«إنّ الله كتب الإحسان على كلّ شيء ... » «3» ، حتّى في معاملة الحيوان الأعجم، وقد مرّ المصطفى صلّى الله عليه وسلّم على رجل واضع رجله على صفحة شاة، وهو يحدّ شفرته، وهي تلحظ إليه ببصرها، فقال: «أفلا قبل هذا ...
أتريد أن تميتها موتتين؟ هلا أحددت شفرتك «4» قبل
__________
(1) التحرير والتنوير (14/ 255، 256)
(2) مدارج السالكين (2/ 480) وما بعدها.
(3) انظر الحديث رقم (4) .
(4) إحداد الشفرة يعني إمضاء آلة الذبح وهي السكين.
الصفحة 69
5730