كتاب العرش وما روي فيه - محققا

يَقُولُونَ لَيْسَ بَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَبَيْنَ خَلْقِهِ حِجَابٌ1 وَأَنْكَرُوا
__________
1 ينكر الجهمية أن يكون بين الله وبين خلقه حجاب، لأن الله على قولهم ليس فوق العرش، وهم إنما ينفون الحجاب وعلو الله فوق عرشه بدعوى أن هذه الأمور تستلزم الجهة والمحايثة والمكان وهذه من صفات الأجسام، والأجسام حادثة، والله منزه عن الحوادث، فلذلك هم يقولون بأن الله بذاته في كل مكان، وليس عندهم للحجاب أي معنى، وقد حكى الدارمي عنهم إنكارهم للحجاب في كتابه "الرد على الجهمية": ص 37، حيث قال: "وليس كما يقول هؤلاء الزائغة: إنه في كل مكان، ولو كان كذلك ما كان للحجب هناك معنى، لأن الذي هو في كل مكان لا يحتجب بشيء من شيء، فكيف يحتجب من هو خارج الحجاب كما هو من ورائه؟ فليس لقول الله عز وجل: {مِنْ وَرَاءِ حِجَاب} عند القوم مصداق".
وقال شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى" (6/ 10) : "والجهمية لا تثبت له حجابا أصلا، لأنه عندهم ليس فوق العرش".
وأما السلف فإنهم يثبتون الحجاب لله تبارك وتعالى كما دلت على ذلك نصوص القرآن والسنة، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً} [سورة الشورى، الآية: 51] .
ومن السنة ما رواه مسلم في "صحيحه" عن أبي موسى قال: قام فينا رسوله الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخمس كلمات فقال: "إن الله عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرقع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور- وفي رواية لأبي بكر: النار- لو كشفه لأحرقت سبخات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه". انظر "صحيح مسلم بشرح النووي": (3/ 12- 13) .
فهذا الحديث فيه ذكر لحجاب الله تعالى الذي لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه.
وقد قام المعطلة بتأويل هذا الحديث وغيره من الأحاديث الصحيحة الدالة على إثبات الحجاب لله سبحانه وتعالى فصرفوا الحجاب الذي أثبته الله تعالى لنفسه إلى المخلوقين فقالوا: إن معنى الحديث: أنه لو كشف الحجاب الذي على أعين الناس ولم يثبتهم لاحترقوا. مع أن الحديث فيه تصريح بأن حجابه النور.
وقد عقد الدارمي في كل من كتابيه "الرد على الجهمية": ص 31، و"الرد على بشر المريسي": ص 526، بابين لذلك فقال في الأول: "باب الاحتجاب" وأورد تحت هذا الباب بعض الأحاديث والآثار الدالة على الحجب، ثم قال: "من يقدر قدر هذه الحجب التي احتجب الجبار بها، ومن يعلم كيف هي، غير الذي أحاط بكل شيء علما؟ {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} [سورة الجن، الآية: 28] ، ففي هذا أيضا دليل على أنه بائن من خلقه محتجب عنهم لا يستطيع جبريل مع قربه إليه الدنو من تلك الحجب".
وقال في الثاني: "الحجب التي احتجب الله بها عن خلقه"، ثم أورد تحته النصوص الدالة عليه، كما تعرض لبعض تأويلات الجهمية ورد عليها.
وكذلك عقد ابن أبي زمنين في كتابه "أصول السنة": ص 318، بابأ باسم: "باب الإيمان بالحجب" وقال: "ومن قول أهل السنة إن الله عز وجل بائن من خلقه، محتجب عنهم بالحجب. فتعالى الله عما يقول الظالمون، كبرت كلمة تخرج من أفواهم إن يقولون إلا كذبا" اهـ.

الصفحة 279