كتاب العرش وما روي فيه - محققا

وَمَنْ قَالَ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ فَإِلَى التَّعْطِيلِ يَرْجِعُ قَوْلُهُمْ.
وَقَدْ عَلِمَ الْعَالِمُونَ أَنَّ اللَّهَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ خَلْقَهُ قَدْ كَانَ مُتَخَلِّصًا مِنْ خَلْقِهِ بَائِنًا مِنْهُمْ، فَكَيْفَ دَخَلَ فِيهِمْ1؟
__________
1 بعد أن بين المؤلف مذهب هؤلاء الجهمية في إنكارهم لعلو الله واستوائه على عرشه، وإنكارهم للعرش، وقولهم بأن الله حال بذاته في كل مكان، شرع بعد ذلك في بيان مذهب السلف في هذه الأمور وأدلتهم عليها، والرد على زعم هؤلاء المعطلة فيما ذهبوا إليه، وبدأ هنا بالإشارة إلى الدليل العقلي الذي يثبت علو الله على خلقه وبينونته عنهم، وقد ورد تفصيل هذا الدليل في كلام الإمام أحمد- رحمه الله- الذي أورده في كتابه "الرد على الزنادقة والجهمي": ص 95 - 96، حيث قال: "إذا أردت أن تعلم أن الجهمي كاذب على الله تعالى حين زعم أنه في كل مكان ولا يكون في مكان دون مكان، فقل له: أليس كان الله ولا شيء، فيقول: نعم.
فقل له: حين خلق الشيء خلقه في نفسه أو خارجا من نفسه؟
فإنه يصير إلى ثلاثة أقاويل، لابد له من واحد منها:
إن زعم أن الله خلق الخلق في نفسه، كفر حين زعم أن الجن والإنس والشياطين في نفسه.
وإن قال: خلقهم خارجا من نفسه، ثم دخل فيهم، كان هذا كفرا أيضا حين زعم أنه دخل في مكان وحش قذر رديء.
وإن قال: خلقهم خارجا من نفسه ثم لم يدخل فيهم، رجع عن قوله أجمع، وهو قول أهل السنة والجماعة.
ولعل المؤلف أراد بالبدء بالدليل العقلي قبل غيره من الأدلة- الإشارة إلى فساد هذا القول من حيث العقل الذي له الدرجة العالية عند الجهمية بحيث إنهم يقدمونه على الكتاب والسنة.
وقد أورد الدارمي في "الرد على الجهمية": ص 18 هذا الدليل العقلي في معرض رده على هؤلاء الجهمية حيث قال: "أرأيتم إذا قلتم: هو في كل مكان، وفي كل خلق، كان الله إلها واحدا قبل أن يخلق الخلق والأمكنة، قالوا: نعم.
قلنا: فحين خلق الخلق والأمكنة أقدر أن يبقى كما كان في أزليته في غير مكان، فلا يصير في شيء من الخلق والأمكنة التي خلقها بزعمكم، أولم يجد بدا من أن يصير فيها ولم يستغن عن ذلك قالوا: بلى.
قلنا: فما الذي دعا الملك القدوس إذ هو على عرشه في عزه وبهائه بائن من خلقه أن يصير في الأمكنة القذرة، وأجواف الناس والطير والبهائم، ويصير بزعمكم في كل زاوية وحجرة ومكان منه شيء، لقد شوهتم معبودكم إذا كانت هذه صفته، والله أعلى وأجل من أن تكون هذه صفته فلا بد لكم أن تأتوا ببرهان بين على دعواكم من كتاب ناطق أو سنة ماضية أو إجماع من المسلمين، ولن تأتوا بشيء منه أبدا.

الصفحة 284