كتاب العرش وما روي فيه - محققا

بِالْجِبَالِ، فَإِنَّ الْجِبَالَ لَتَفْخَرُ عَلَيْهَا1.
__________
1 أخرجه ابن جرير في "تفسيره": (29/ 14) ، والآجري في "الشريعة": ص 178، 179، والحاكم في "المستدرك ": (2/498) ، والبيهقي في "الأسماء والصفات": ص 127.
كلهم بإسنادهم عن الأعمش عن أبي ظبيان به.
وقال الحاكم: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، وإسناد المؤلف جيد ورجاله ثقات.
التعليق:
ما ذكره ابن عباس في هذا الأثر يتضمن مسألتين:
الأولى: هي مسألة ترتيب خلق السموات، والأرض بالنسبة لخلق العرش، وهذه المسألة هي الشاهد من إيراد المؤلف لهذا الأثر في هذا الكتاب، وقد بين ابن عباس- رضي الله عنهما- مذهب السلف في هذا الشأن وذلك بأنهم يقولون بما دلت عليه النصوص الواردة في القرآن والسنة الدالة على أن خلق العرش سابق لخلق السموات والأرض، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} ، ومن السنة ما تقدم في حديث عمران الذي جاء فيه: "كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء ثم خلق السموات والأرض".
وفي "صحيح مسلم" (8/ 51) عن عبد الله بن عمرو عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء".
وقد أجمع على هذا سلف الأمة وأئمتها،، ولم يخالفهم في ذلك سوى طوائف من المتكلمين زعموا أن السموات والأرض كانتا مخلوقتين قبل العرش، وهذا زعم باطل لا دليل لهم عليه، بل إن نصوص القرآن ترده. والله أعلم.
وأما المسألة الثانية: التي جاء ذكرها في هذا الأثر فهي مسألة خلق السموات والأرض، وقد دلت الآيات القرآنية على أن خلق الأرض سابق لخلق السموات، قال تعالى: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [سورة فصلت، الآيات: 9- 12] ،.
وقد مر خلق السموات والأرض بمراحل:
وقد كانت المرحلة الأولى هي مرحلة خلق الأرض كما تقدم في الآيتين السابقتين، وقد كان ذلك مقدرا فيها بالقوة كما قال تعالى: {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} أي: هيأ أماكن الزرع ومواضع العيون والأنهار.
وأما المرحلة الثانية: فهي خلق السموات، قال تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} ، فالسموات خلقت من بخار الماء كما قال ابن عباس: "ثم رفع بخار الماء ففتقت منه السموات"، وفي ذلك رد على بعض المتكلمين الذين يزعمون أن السموات خلقت. من العدم المحض، وفي هذه المرحلة تم بناء السماء كما قال تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} ، وقال تعالى: {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} ، وقال تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} [النازعات، الآيات: 27- 29] ،.
وأما المرحلة الثالثة: فهي دحي الأرض كما قال تعالى: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعاً لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} [سورة النازعات، الآيات: 30- 33] .
فدحى الأرض فأخرج منها ما كان مودعا فيها، فخرجت العيون، وجرت الأنهار، وهذه المرحلة هي التي أشار إليها ابن عباس بقوله: "فدحيت الأرض".
وأما قول ابن عباس: "فمادت الأرض، فأثبتت بالجبال" فهذا ما يشهد له قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ} [سورة الأنبياء، الآية: 31] .
وجاء في "مسند" الإمام أحمد بن حنبل (3/124) عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "لما خلق الله الأرض جعلت تميد، فخلق الله الجبال فألقاها عليها فاستقرت، فتعجبت الملائكة من خلق الجبال...." الحديث.
وأما قول ابن عباس: "فدحيت الأرض على ظهر النون" فالمراد بالنون هنا هو الحوت الذي يزعمون أن الأرض على ظهره، وأمر الحوت هذا لا أصل له في القرآن والسنة، وإنما هو من الإسرائيليات التي أخذها ابن عباس عن كعب الأحبار وغيره.

الصفحة 305