كتاب العرش وما روي فيه - محققا

فَسَبَّحَ رسول الله، فمازال يُسَبِّحُ حَتَّى عُرِفَ ذَلِكَ فِي وُجُوِهِ أصْحَابِهِ، ثُمَّ قَالَ: "وَيْلَكَ لَا يُسْتَشْفَعُ بِاللَّهِ عَلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، شَأْنُ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، وَيْحَكَ مَا تُدْري مَا اللَّهُ، إِنَّ عَرْشَهُ عَلَى سَمَوَاتِهِ وَأَرَاضِيهِ هَكَذَا"، وَقَالَ بِأَصَابِعِهِ مِثْلَ الْقُبَّةِ، وَصَفَ ذَلِكَ وَهْبٌ، وَأَمَالَ كَفَّهُ وَأَصَابِعَهُ الْيُمْنَى، وَقَالَ هَكَذَا، وَإِنَّهُ لَيَئِطُّ بِهِ أَطِيطَ الرَّحْلِ بِالرَّاكِبِ"1.
__________
1 أخرجه من هذا الوجه: ابن أبي عاصم في "السنة": (1/252) عن عبد الأعلى ومحمد بن المثنى، والدارمي في "الرد على بشر المريسي": ص 447، عن ابن بشار مختصرا، وأبو الشيخ في "العظمة": (ق 33/ 1) عن محمد بن المثنى.
كلهم عن وهب بن جرير حدثنا أبي قال: سمعت محمد بن إسحاق يحدث عن يعقوب بن عتبة وجبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده. وقد جاء عند ابن أبي عاصم "ونهكت الأبدان" بدل "هلكت الأنعام".
وقد أشار إلى هذه الرواية أبو داود في "سننه": (5/ 95، 96) .
وقد روي الحديث من وجه آخر: أخرجه أبو داود في "سننه"، كتاب السنة، باب في الجهمية: (5/94- 96، حديث 4726) عن أحمد بن سعيد الرباطي، وابن أبي عاصم في "السنة": (1/253) عن أبي الأزهر النيسابوري، وابن خزيمة في "التوحيد": ص 103، عن محمد بن بشار، والطبراني في "المعجم الكبير": (2/132، حديث 1547) بسنده عن عبد الأعلى وابن معين وابن المديني، والدارقطني في "الصفات": ص 52، بسنده عن ابن معين وابن المديني، والبيهقي في "الأسماء والصفات": ص 526، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة": (2/ 394) ، كلاهما بسندهما عن أبي الأزهر، وابن منده في "التوحيد": (ق 117/ 1) بسنده عن يحى بن معين.
كلهم عن وهب بن جرير قال: حدثنا أبي قال: سمعت محمد بن إسحاق يحدث عن يعقوب بن عتبة عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده- بنحوه بعضهم مختصرا وبعضهم مطولا.
وهذا هو الصواب من الوجهين.
كما صرح به أبو داود فإنه قال: "والحديث بإسناد أحمد بن سعيد هو الصحيح، وافقه عليه جماعة، منهم يحيى بن معين وعلى ابن المديني".
وقد تكلم بعض الأئمة على هذا الحديث.
فقال الذهبي في "العلو": ص 39: (هذا حديث غريب جدا فرد، وابن إسحاق حجة في المغازي إذا أسند، وله مناكير وعجائب، فالله أعلم. أقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا أم لا؟ وأما الله- عز وجل- فليس كمثله شيء جل جلاله وتقدست أسماؤه ولا إله غيره.
واستغربه الحافظ ابن كثير في تفسير آية الكرسي من "تفسيره": (1/ 310) ثم إن في إسناده اختلافا.
هذا، وقد تكلم ابن القيم في "تهذيب السنن": (7/95، 117) بكلام طويل، نصر فيه تصحيح الحديث، ورد المطاعن التي، طعن بها هذا الحديث وبخاصة عن ابن إسحاق.
والصواب أن هذا الإسناد ضعيف كما تقدم نقلا عن الأئمة، ولا سيما جبير بن محمد قال فيه الحافظ ابن حجر: "مقبول" يعني إذا توبع، ولم يتابع هنا.
التعليق:
تقدم الكلام في التعليق على حديث الأوعال أن منهج السلف في إيراد مثل هذه الأحاديث التي في إسنادها مقال إنما هو من باب التأكيد لا من باب التأييد، وهذا الحديث إنما ساقه الكثير من السلف لما فيه من تواتر علو الله - تعالى- فوق عرشه مما يوافق آيات الكتاب.
والحديث يتضمن عدة أمور لها تعلق في مسائل العقيدة منها: عدم جواز الاستشفاع بالله على أحد من خلقه، فهذا ما أنكره الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الأعرابي، وهذا القول لا يليق بالخالق - سبحانه وتعالى- لأن شأنه أعظم من ذلك، فهو- سبحانه- رب كل شي، ومليكه، والخير كله بيده- سبحانه وتعالى- فلا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، وهو كما قال عن نفسه: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} [سورة فاطر، الآية: 44] ، وقال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} الآية، فالخلق وما في أيديهم ملكه يتصرف فيهم كيف يشاء، وهو الذي يشفع الشافع إليه.
وأما الاستشفاع بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الله فهذا جائز في حياته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدليل عدم إنكاره على الأعرابي، أما بعد مماته فهذا ما لم يفعله أحد من الصحابة.
وأما الأمر الآخر فهو قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "شأن الله أعظم من ذلك، ويحك أتدري ما الله، إن عرشه على سمواته وأراضيه هكذا".
قالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استدل على الله وعظم شأنه-. سبحانه وتعالى- ببعض آياته الكونية، وهذا هو منهج الرسل ومن تبعهم في معرفة الله- سبحانه وتعالى-، فهم يستدلون على ذلك بالآيات الكونية الدالة على وحدانية الله وأنه سبحانه هو وحده المتصرف في هذا الكون والمدبر له، ولذلك جاء الأمر في القرآن بالتفكر في مخلوقات الله وآياته الكونية والسمعية والتدبر فيها لما فيها من الأثر البليغ في الدلالة على وحدانية الخالق ووجوده- سبحانه وتعالى-.
والأمر الثالث الذي دل عليه الحديث، هو وصف عرش الرحمن- تبارك وتعالى- بأنه مقبب الشكل، وأنه على هذا العالم المكون من السموات والأرض وما فيها كهيئة القبة، ومما يؤيد وصف العرش بهذه الصفة ما جاء في الحديث الآخر الذي رواه البخاري في "صحيحه": "إذاسألتم الله فسلوه الفردوس، فإنه وسط الجنة أعلاها، وفوقه عرش الرحمن".
فالحديث دل على أن الفردوس وسط الجنة وأعلاها، ومن المعلوم أن الجنة كما جاء في الحديث مائة درجة ما بين كل درجة ودرجة كما بين السماء والأرض، فكون العرش سقفا للفردوس الذي هو أوسط الجنة وأعلاها، يدل على أنه مقبب لأن الشيء لا يكون وسط أعلاه إلا إذا كان مستديرا والعرش هو على هذه الصفة.
وفي هذا رد على الفلاسفة الذين يزعمون أن العرش فلك من الأفلاك وأنه هو الفلك التاسع، كما أن في هذا ردا على من أنكر العرش وزعم أن المراد به الملك.
وقوله: " إنه ليئط به أطيط الرحل بالراكب" فهو كما قال الذهبي- رحمه الله تعالى-: "الأطيط الواقع بذات العرش من جنس الأطيط الحاصل في الرحل، فذاك صفة للرحل وللعرش، ومعاذ الله أن نعده صفة لله- عز وجل-، ثم لفظ الأطيط لم يأت به نص ثابت".

الصفحة 330