يُرْمَى بِهَا؟ " قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ كُنَّا نَقُولُ حِينَ رَأَيْنَاهَا يُرْمَى بِهَا: مَاتَ مَلِكٌ، هَلَكَ مَلِكٌ، وُلِدَ مَوْلُودٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَيْسَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ إِذَا قَضَى فِي خَلْقِهِ أَمْرًا سَمِعَهُ حَمَلَةُ الْعَرْشِ فَسَبَّحُوا، فَسَبَّحَ مَنْ تَحْتَهُمْ بِتَسْبِيحِهِمْ، فَسَبَّحَ مَنْ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَمْ يَزَلِ التَّسْبِيحُ يَهْبِطُ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيُسَبِّحُونَ، ثُمَّ يَقُولُ بعضهم لبعض: مما سَبَّحْتُمْ، فَيَقُولُونَ: سَبَّحَ مَنْ فَوْقَنَا فَسَبَّحْنَا بِتَسْبِيحِهِمْ، فَيَقُولُونَ: أَفَلَا1 تَسْأَلُونَ من فوقكم مما سَبَّحُوا، فَيَقُولُونَ: مِثْلَ ذَلِكَ حَتَّى يَنْتَهُونَ إِلَى حَمَلَةِ الْعَرْشِ، فيقال لهم مما سَبَّحْتُمْ، فَيَقُولُونَ: قَضَى اللَّهُ فِي خَلْقِهِ كَذَا وَكَذَا، الْأَمْرَ الَّذِي كَانَ قَدْ هَبَطَ بِهِ الْخَبَرُ مِنْ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ، حَتَّى يَنْتَهُونَ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيَتَحَدَّثُونَ بِهِ، فَيَسْتَرِقُ الشَّيَاطِينُ بِالسَّمْعِ عَلَى قَوْلِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ ثُمَّ يَأْتُونَ الْكُهَّانَ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ فَيُحَدِّثُونَهُمْ بِهِ، فَيُخْطِئونَ وَيُصيبُونَ، فَيَتَحَدَّثُ بِهِ الْكُهَّانُ، فَيُصِيبُونَ بَعْضًا، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ حَجَبَ الشَّيَاطِينَ بِهَذِهِ النُّجُومِ الَّتِي يُقْذَفُونَ بِهَا، فَانْقَطَعَتِ الْكِهَانَةُ فَلَا كِهَانَةَ"2.
__________
1 في "الأصل": "فلا"، والصواب ما أثبته وبذلك يستقيم الكلام.
2 أخرجه من طريق محمد بن إسماعيل عن الزهري: ابن جرير في "تفسيره"، في تفسير سورة الصافات: (23/37) بنحوه.
وهو كالحديث الذي قبله، وفيه متابعة ابن إسحاق للأوزاعي.
وفي المتن زيادة وهي قوله: "ثم إن الله حجب الشياطين بهذه النجوم التي يقذفون بها، فانقطعت الكهانة فلا كهانة"، ولم أجدها في المصادر الأخرى التي اطلعت عليها إلا في "دلائل النبوة" للبيهقي: (2/237) ، حيث ذكره معلقا عن محمد بن إسحاق بن يسار عن الزهري فقال في آخره: "ثم إن الله عز وجل حجب الشياطين عن السمع بهذه النجوم فانقطعت الكهانة فلا كهانة" في رواية ابن جرير عن ابن إسحاق عبارة تشبهها وهي قوله: "فلم تزل الجن كذلك حتى رموا بالشهب". وقد أورد المصنف هذا الحديث لما فيه من الدلالة على إثبات علو الله واستوائه فوق عرشه.
وفي الحديث فوائد:
الأولى: إثبات أن الرمي بالشهب كان موجودا قبل مبعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا هو قول كثير من أهل العلم كما ذكر ذلك الشوكاني في "فتح القدير": (3/125- 126) حيث قال: "وفي الحديث شاهد على أن الرمي كان موجودا قبل البعثة، وقد زيد بعد البعثة".
وقد قيل: إن الرمي إنما كان بعد المبعث، وهو قول الزجاج حيث قال: إن الرمي بالشهب من آيات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مما حدث بعد مولده، لأن الشعراء في القديم لم يذكروه في أشعارهم، وهو قول ضعيف يرده ما جاء في الحديث.
الثانية: إبطال كون النجوم لها علاقة بما يحدث في هذه الدنيا من الأمور والأحداث، ففي الحديث إبطال لهذا المعتقد الجاهلي، هذا، وقد بين القرآن وظائف النجوم وهي منحصرة في ئلائة أمور:
الأول: كونها زينة للسماء، قال تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [سورة الملك، الآية: 5] .
الثاني: كونها علامات يهتدى بها في البر والبحر لمعرفة الجهات والأماكن، قال تعالى: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [سورة النحل، الآية: 16] .
والثالث: كونها رجوما للشياطين الذين يحاولون استراق السمع قال تعالى: {وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ} [سورة الملك، الآية: 5] ، كما أن في الحديث دلالة على هذه الوظيفة التي هي حراسة السماء.
الثالث: جاء في آخر الحديث قوله: "ثم إن الله حجب الشياطين بهذه النجوم التي يقذفون بها فانقطعت الكهانة فلا كهانة".
فالحديث يدل على انقطاع نوع من أنواع الكهانة، وذلك لأن الكهانة في العرب ثلاثة أضرب:
الأول: أن يكون للإنسان ولي من الجن، يخبره بما يطرأ أو يكون في أقطار الأرض وما خفي عنه مما قرب أو بعد، وهذا النوع موجود، وقد نفت المعتزلة وبعض المتكلمين هذا النوع وقالوا باستحالته. والجواب: أنه لا استحالة في ذلك، وهو موجود، ولكنهم يصدقون ويكذبون، والنهي عن تصديقهم والسماع منهم عام.
الثاني: المنجمون: وهذا الضرب يخلق الله تعالى فيه لبعض الناس قوة ما، لكن الكذب فيه أغلب، ومن هذا الفن العرافة وصاحبها يسمى عرافا، وهو الذي يستدل على الأمور بأسباب ومقدمات يدعي معرفتها بها، وقد يعتضد بعض هذا الفن ببعض في ذلك بالزجر والطرق والنجوم وأسباب معتادة.
الثالث: أن يكون لإنسان ولي من الجن يخبره بما يسترقه من السمع من السماء، وهذا القسم هو الذي دل عليه الحديث على أنه بطل بعد مبعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد دل على ذلك القرآن، قال تعالى: {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} [سورة الشعراء، الأية: 212] ، وقال تعالى حكاية عن الجن: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً} [سورة الجن، الآيتان: 8- 9] ، وقال تعالى: {وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} [سورة الحجر، الآية: 17] .
وقد قيل: إن المنع إنما كان زمن الوحي بدليل قوله تعالى: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [سورة الصافات، الآيات: 6- 15] ،. فقالوا: الاستثناء راجع إلى غير الوحي، فيخطف الواحد منهم خطفة مما يتفاوض فيه الملائكة ويدور بينهم مما سيكون في العالم قبل أن يعلمه أهل الأرض، أما آيات المنع فهي راجعة إلى الوحي، والراجح هو القول الأول، وهو أنهم منعوا بعد البعثة.
انظر: "صحيح مسلم بشرح النووي": (14/223) ، "فتح القدير": (3/ 125- 126) ، (4/ 376) .