كتاب العرش وما روي فيه - محققا

أَبِي النَّضْرَةِ1 قَالَ: خَطَبَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ بِالْبَصْرَةِ عَلَى هَذَا الْمِنْبَرِ فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "آتِي بَابَ الْجَنَّةِ فَآخُذُ بحَلْقَةِ الْبَابِ، فَأَقْرَعُ الْبَابَ، فَيُقَالُ لِي: مَنْ أَنْتَ؟ فَأَقُولُ: أَنَا مُحَمَّدٌ؟ فَيُفْتَحُ لِي، فَيَتَجَلَّى لِي رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فَأَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا وَهُوَ عَلَى سَرِيرِهِ أَوْ عَلَى كُرْسِيِّهِ- شَكَّ حَمَّادٌ-" 2.
__________
1 هو منذر بن مالك بن قطعة (بضم القاف وفتح المهملة) ، أبو نضرة العبدي ثم العوفي (بفتح المهملة والواو ثم القاف) البصري، مشهور بكنيته.
روى عن ابن عباس وغيره.
ثقة من الثالثة، مات سنة ثمان أو تسع ومائة.
أخرج له البخاري تعليقا، ومسلم، والأربعة.
تهذيب التهذيب: (10/ 302) ، "تقريب التهذيب: ص 347.
2 أخرجه الدارمي في "الرد على بشر المريسي": ص 347 بنحوه.
وأخرجه أحمد في "مسنده": (1/ 281- 282، 295- 296) مطولا. وكلاهما من طريق حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي نضرة عن ابن عباس مرفوعا بنحوه.
رجاله ثقات إلا علي بن زيد ففيه ضعف، ولكن الحديث له شواهد:
فله شاهد في حديث أبي هريرة الطويل الذي فيه ذكر الحشر أخرجه أبو الشيخ في "العظمة": (ق 66/ 1، 72/ 1) وفيه: "حتى آتي الجنة فأخذ بحلقة الباب، فأستفتح، فيفتح لي وأحيا ويرحب بي؟ فإذا دخلت الجنة نظرت إلى ربي- عز وجل- على عرشه فخررت ساجدا" الحديث.
أورده ابن كثير في "النهاية": (172/1- 179) عن الحافظ أبي يعلى الموصلي في "مسنده" بسنده عن محمد بن كعب القرظي عن رجل من الأنصار عن أبي هريرة مرفوعا بنحوه.
وأيضا، للحديث طريق آخر عن أنس- رضي الله عنه-.
أخرجه البخاري في "صحيحه"، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} بسنده عن أنس مرفوعا، وفيه: "فيأتون فأستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه" الحديث. انظر: "فتح الباري": (13/422) .
التعليق:
دل الحديث أولا على إثبات رؤية النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لربه- عز وجل- يوم القيامة. والرؤية ثابتة له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولأمته ولكافة المؤمنين يوم القيامة، وهي أعظم النعم التي أعطاها الله لعباده المؤمنين في الجنة وأكملها، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو أول الخلق رؤية للبارئ عز وجل يوم القيامة.
ومما يدل على ذلك هذا الحديث الذي معنا، ذلك لأن استئذان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ربه إنما هو من أجل الشفاعة في أهل الموقف ليقضى بينهم فهذا يدل على أنه يرى ربه قبل رؤية المؤمنين لربهم الذين قد ثبت أنهم يرونه في عرصات القيامة وبعد دخولهم إلى الجنة، ونزولهم في منازلها.
وخلاصة مذهب السلف في مسألة الرؤية هي أنهم يثبتون رؤية المؤمنين لربهم- عز وجل- في الآخرة رؤية بصرية، وذلك لثبوتها في الكتاب والسنة.
فأما دلالة القرآن على إثباتها ففي قوله! وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [سورة القيامة، الآية: 22- 23] .
وقال- عز وجل- مخبرا عن الكفار أنهم امحجوبون عن رؤيته: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين، الآية: 15] ، فدلت هذه الآية أن المؤمنين ينظرون إلى الله- عز وجل- وأنهم غير محجوبين عن رؤيته كرامة منه لهم.
وقال عز وجل: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [سورة يونس، الآية: 26] ، فروي أن الزيادة هي النظر إلى وجه الله عز وجل.
وقال عز وجل: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً} ، قال الآجري في كتاب "الشريعة" ص 252: "اعلم رحمك الله أن عند أهل العلم باللغة أن اللقى هاهنا لا يكون إلا معاينة، يراهم الله عز وجل ويرونه، ويسلم عليهم ويكلمهم ويكلمونه" اهـ.
وقد دلت السنة الصحيحة على ما د ل عليه القرآن، فقد وردت الأحاديث المتواترة الكثيرة الدالة على أن المؤمنين يرون ربهم- عز وجل- حقيقة، وحددت موعد تلك الرؤية بأنه بعد دخول المؤمنين إلى الجنة ونزولهم في منازلهم.
ومن تلك الأحاديث ما أخرجه البخاري ومسلم في "صحيحيهما" عن أبي سعيد الخدري قال: قلنا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: "هل تضارون في رؤية الشمس والقمر إذا كانت صحوا؟ " قلنا: لا، قال: "فإنكم لا تضارون في رؤية ربكم يومئذ إلا كما تضارون في رؤيتهما...." الحديث.
"فتح الباري": (13/ 421، 422) ، و"صحيح مسلم": (1/ 115) ، كتاب الإيمان، باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم- سبحانه وتعالى-.
وأما المسألة الثانية التي دل عليها الحديث هي "كون عرش الرحمن فوق الجنة"، فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما جاء في الحديث: "قرع باب الجنة ففتح له فتجلى له ربه- سبحانه وتعالى- فرآه وهو على كرسيه أو على سريره"، فالجنة على هذا هي التي دون عرش الرحمن في الارتفاع، وعرش الرحمن سقفها كما جاء في الحديث الآخر "إذا سألتم الله فسلوه الفردوس فإنه وسط الجنة وأعلاها، وفوقه عرش الرحمن" ومن خلال الحديثين نستطيع أن نعرف ترتيب الجنة والعرش من حيث العلو، فالجنة كما ثبت في الأحاديث الصحيحة هي فوق السموات السبع، وفوق الجنة عرش الرحمن، وفوق العرش الرحمن- تبارك وتعالى- فلا سبيل إلى الوصول إلى العرش إلا بدخول الجنة؟ فمن أجل ذلك قرع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باب الجنة وفتح له. والله أعلم.

الصفحة 410