كتاب المغني لابن قدامة ت التركي (اسم الجزء: 4)

قال عبدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ: ما تَارِكُ الزَّكَاةِ بِمُسْلِمٍ (٢٧). وَوَجْهُ ذلك، ما رُوِىَ أنَّ أبا بكرٍ، رَضِىَ اللهُ عنه، لمَّا قَاتَلَهُم، وعَضَّتْهُمُ الحَرْبُ، قالوا: نُؤَدِّيها. قال: لا أقْبَلُهَا حتى تَشْهَدُوا أنَّ قَتْلَانَا فى الجَنَّةِ وقَتْلَاكُمْ فى النَّارِ (٢٨). ولم يُنْقَلْ إنْكارُ ذلك عن أحَدٍ من الصَّحابَةِ، فدَلَّ على كُفْرِهم. وَوَجْهُ الأوَّل، أنَّ عمرَ وغَيْرَه من الصَّحابَةِ امْتَنَعُوا من القِتَالِ فى بَدْءِ الأمْرِ، ولو اعْتَقَدُوا كُفْرَهُم لَما تَوَقَّفُوا عنه، ثم اتَّفَقُوا على القِتَالِ، وبَقِىَ الكُفْرُ على أَصْلِ النَّفْىِ، ولأنَّ الزَّكَاةَ فَرْعٌ من فُرُوعِ الدِّينِ، فلم يَكْفُرْ تَارِكُه بمُجَرَّدِ تَرْكِه؛ كالحَجِّ، وإذا لم يَكْفُرْ بِتَرْكِه، لم يَكْفُرْ بالقِتَالِ عليه كأهْلِ البَغْىِ. وأمَّا الَّذِينَ قال لهم أبو بكرٍ هذا القَوْلَ، فيحْتَمِلُ أنَّهم جَحَدُوا وُجُوبَها، فإنَّه نُقِلَ عنهم أنَّهُمْ قالوا: إنَّمَا كُنَّا نُؤَدِّى إلى رسولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ لأنَّ صَلَاتَهُ سَكَنٌ لنا، وليس صلاةُ أبى بكرٍ سَكَنًا لنا، فلا نُؤَدِّى إليه. وهذا يَدُلُّ على أنَّهم جَحَدُوا وُجُوبَ الأدَاءِ إلى أبى بكرٍ، رَضِىَ اللهُ عنه، ولأنَّ هذه قَضِيَّةٌ فى عَيْنٍ، ولا يَتَحَقَّقُ من الَّذِينَ قال لهم أبو بكرٍ هذا القَوْلَ، فيحْتَمِلُ أَنَّهم كَانُوا مُرْتَدِّينَ، ويَحْتَمِلُ أَنَّهم جَحَدُوا وُجُوبَ الزَّكَاةِ، ويَحْتَمِلُ غيرَ ذلك، فلا يجوزُ الحُكْمُ به فى مَحَلِّ النِّزَاعِ، ويَحْتَمِلُ أنَّ أبا بكرٍ قال ذلك لأنَّهُم ارْتَكَبُوا كَبَائِرَ، وماتُوا من غيرِ تَوْبَةٍ، فحكم لهم بالنَّارِ ظَاهِرًا، كما حكم لِقَتْلَى المُجَاهِدِينَ بالجَنَّةِ ظَاهِرًا، والأمْرُ إلى اللهِ تعالى فى الجَمِيعِ، ولم يَحْكُمْ عليهم بالتَّخْلِيدِ، ولا يَلْزَمُ من الحُكْمِ بالنَّارِ الحُكْمُ بالتَّخْلِيدِ، فقد (٢٩) أخْبَرَ النبىُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن قَوْمًا من أُمَّتِهِ يَدْخُلُونَ النَّارَ، ثم يُخْرِجُهُم اللهُ تَعَالَى منها ويُدْخِلُهُم الجَنَّةَ (٣٠).
---------------
(٢٧) أخرجه ابن أبى شيبة، فى: باب ما قالوا فى منع الزَّكَاة، من كتاب الزَّكَاة. المصنف ٣/ ١١٤.
(٢٨) أخرجه أبو عبيد، فى: الأموال ١٩٦ - ١٩٨. والبخارى مختصرا، فى: باب الاستخلاف، من كتاب الأحكام. صحيح البخارى ٩/ ١٠١. وانظر: فتح البارى ١٣/ ٢١٠.
(٢٩) فى م: "بعد أن".
(٣٠) أخرجه البخارى، فى: باب صفة الجنة والنار، من كتاب الرقاق، وفى: باب ما جاء فى قول اللَّه {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}، من كتاب التوحيد. صحيح البخارى ٨/ ١٤٨، ٩/ ١٦٤. ومسلم، =

الصفحة 9