كتاب المغني لابن قدامة ت التركي (اسم الجزء: 6)

وبَيْعٍ لم يُشْتَرَطْ فيه، سَمَّاهُ صَفْقَةً لِقِصَرِ مُدَّةِ الخِيَارِ فيه، فإنَّه قد رَوَى عنه أبو إسحاقَ الجُوزَجَانِيُّ مِثْلَ مَذْهَبِنا، ولو أرَادَ ما قَالُوهُ، لم يَجُزْ أن يُعَارَضَ به قَوْلُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فلا حُجَّةَ فى قَوْلِ أحَدٍ مع قَوْلِ النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وقَدْ كان عمرُ إذا بَلَغَهُ قَوْلُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، رَجَعَ عن قَوْلِه، فكيف يُعارَضُ قَوْلُهُ بِقَوْلِه؟ على أنَّ قَوْلَ عمرَ ليسَ بِحُجَّةٍ إذا خَالَفَهُ بَعْضُ الصَّحَابَةِ، وقد خَالَفَهُ ابْنُه، وأبو بَرْزَةَ، وغَيْرُهما، ولا يَصِحُّ قِيَاسُ البَيْعِ على النِّكَاحِ؛ لأنَّ النِّكاحَ لا يَقَعُ غَالِبًا إلَّا بعد رَوِيَّةٍ ونَظَرٍ وتَمَكُّثٍ، فلا يَحْتاجُ إلى الخِيَارِ بعده، ولأنَّ فى ثُبُوتِ الخِيَارِ فيه مَضَرَّةٌ، لما يَلْزَمُ من رَدِّ المَرْأةِ بعد ابْتِذَالِها بِالعَقْدِ، وذَهَابِ حُرْمَتِها بِالرَّدِّ، وإلْحَاقِها بِالسِّلَعِ المَبِيعَةِ، فلم يَثْبُتْ فيه خِيَارٌ لذلك، ولِهذا لم يَثْبُتْ فيه خِيَارُ الشَّرْطِ، ولا خِيَارُ الرُّؤْيَةِ، والحُكْمُ فى هذه المَسْألَةِ ظَاهِرٌ؛ لِظُهُورِ دَلِيلِه، وَوَهَاءِ ما ذَكَرَهُ المُخَالِفُ فى مُقَابَلَتِه، واللهُ أعْلَمُ. الفصل الثاني، أنَّ البَيْعَ يَلْزَمُ بِتَفَرُّقِهِما؛ لِدَلَالَةِ الحَدِيثِ عليه، ولا خِلَافَ فى لُزُومِه بعد التَّفَرُّقِ، والمَرْجِعُ فى التَّفَرُّقِ إلى عُرْفِ النّاسِ وعَادَتِهم، فيما يَعُدُّونَهُ تَفَرُّقًا؛ لأنَّ الشَّارِعَ عَلَّقَ عليه حُكْمًا، ولم يُبَيِّنْهُ، فَدَلَّ ذلك على أنَّه أرَادَ ما يَعْرِفُه النّاسُ، كَالقَبْضِ، والإِحْرَازِ، فإن كانَا فى فَضَاءٍ وَاسِعٍ، كَالمَسْجِدِ الكَبِيرِ، والصَّحْرَاءِ، فَبِأَنْ يَمْشِىَ أحَدُهُمَا مُسْتَدْبِرًا لِصَاحِبِه خُطُوَاتٍ، وقِيلَ: هو أن يَبْعُدَ منه بِحَيْثُ لا يَسْمَعُ كَلَامَه الذى يَتَكَلَّمُ به فى العادَةِ. قال أبُو الحَارِثِ: سُئِلَ أحْمَدُ عن تَفْرِقَةِ الأبدَانِ؟ فقال: إذا أخَذَ هذا كذا، وهذا كذا، فقد تَفَرَّقَا. وَرَوَى مُسْلِمٌ، عن نَافِعٍ، قال: فكان ابنُ عُمَرَ إذا بَايَعَ، فأرَادَ [أنْ] (٧) لا يُقِيلَه، مَشَى هُنَيْهَةً، ثم رَجَعَ. وإنْ كَانَا فى دَارٍ كَبِيرَةٍ، ذاتِ مَجَالِسَ وبُيُوتٍ، فَالمُفَارَقَةُ أنْ يُفَارِقَهُ من بَيْتٍ إلى بَيْتٍ، أو إلى مَجْلِسٍ، أو صِفَةٍ، أو من مَجْلِسٍ إلى بَيْتٍ، أو نَحْوِ ذلك. فإنْ كَانَا فى دارٍ صَغِيرَةٍ، فإذا صَعِدَ أحَدُهُما السَّطْحَ، أو خَرَجَ منها، فقد فَارَقَهُ. وإن كانَا فى سَفِينَةٍ صَغِيرَةٍ، خَرَجَ أحَدُهما منها
---------------
(٧) تكملة من صحيح مسلم ٣/ ١١٦٤.

الصفحة 12