كتاب المغني لابن قدامة ت التركي (اسم الجزء: 6)
ومَشَى، وإنْ كانتْ كَبِيرَةً صَعِدَ أحَدُهما على أعْلاها، ونَزَلَ الآخَرُ فى أسْفَلِها. وهذا كُلّه مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. فإنْ كان المُشْتَرِى هو البَائِعَ، مثلُ أنْ يَشْتَرِىَ لِنَفْسِه من مَالِ وَلَدهِ، أو اشْتَرَى لِوَلَدِه من مَالِ نَفْسِه، لم يَثْبُتْ فيه خِيَارُ المَجلِسِ؛ لأنَّه تَوَلَّى طَرَفَىِ العَقْدِ، فلم يَثْبُتْ له خِيَارٌ، كَالشَّفِيعِ، ويَحْتَمِلُ أنْ يَثْبُتَ فيه، ويُعْتَبَرَ مُفَارَقَة مَجْلِسِ العَقْدِ لِلُزُومِهِ؛ لأنَّ الافْتِرَاقَ لا يُمْكِنُ هَاهُنَا، لِكَوْنِ البَائِعِ هو المُشْتَرِى، ومَتَى حَصَلَ التَّفَرُّقُ لَزِمَ العَقْدُ، قَصَدَا ذلك أو لم يَقْصِدَاهُ، عَلِمَاهُ أو جَهِلَاهُ؛ لأنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَّقَ الخِيارَ على التَّفَرُّقِ، وقد وُجِدَ. ولو هَرَبَ أحَدُهما من صَاحِبِه، لَزِمَ العَقْدُ؛ لأنَّه فَارَقَهُ بِاخْتِيَارِهِ، ولا يَقِفُ لُزُومُ العَقْدِ على رِضَاهما، ولهذا كان ابنُ عُمَرَ يُفَارِقُ صَاحِبَه لِيَلْزَمَ البَيْعُ. ولو أقَامَا فى المَجْلِسِ، وسَدَلَا بينهما سِتْرًا، أو بَنَيَا بينهما حَاجِزًا، أو نَامَا، أو قَامَا فَمَضَيَا جَمِيعًا ولم يَتَفَرَّقَا، فَالخِيَارُ بحَالِه، وإن طَالَتِ المُدَّةُ لِعَدَمِ التَّفَرُّقِ. ورَوَى أبُو دَاوُدَ (٨)، والأثْرَمُ، بإسْنَادِهِمَا عن أبى الوَضِىءِ (٩)، قال: غَزَوْنَا غَزوَةً لنا، فنَزَلْنَا مَنْزِلًا، فبَاعَ صَاحِبٌ لنا فَرَسًا بِغُلَامٍ، ثم أقَامَا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمَا ولَيْلَتِهِما، فلمَّا أصْبَحَا من الغَدِ، وحَضَرَ الرَّحِيلُ، قَامَ إلى فَرَسِه يُسْرِجُهُ، فَنَدِمَ، فأَتَى الرَّجُلَ، وأخَذَهُ بِالبَيْعِ، فأبَى الرَّجُلُ أنْ يَدْفَعَهُ إليه، فقال: بَيْنِى وبَيْنَكَ أبو بَرْزَةَ صَاحِبُ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. فأَتَيَا أبَا بَرْزَة فى نَاحِيَةِ العَسْكَرِ (١٠)، فقَالَا له هذه القِصَّة. فقال: أتَرْضَيانِ أن أقْضِىَ بَيْنَكُما بِقَضاءِ رَسُولِ اللَّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ قال رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ ما لم يَتَفَرَّقَا". ما أَرَاكُما افْتَرَقْتُما. فإنْ فَارَقَ أحَدُهما الآخَرَ مُكْرَهًا، احْتَمَلَ بُطْلَانُ الخِيَارِ؛ لوُجُودِ غَايَتِه، وهو التَّفَرُّقُ، ولأنَّه لا يُعْتَبَرُ رِضَاهُ فى مُفَارَقَةِ صَاحِبِه له،
---------------
(٨) أخرجه أبو داود، فى: باب فى خيار المتبايعين، من كتاب البيوع. سنن أبى داود ٢/ ٢٤٥. وانظر ما تقدم فى تخريج حديث: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" صفحة ٦.
(٩) فى النسخ: "أبى الرضى". تحريف.
(١٠) فى م: "المعسكر".
الصفحة 13
695