كتاب المغني لابن قدامة ت التركي (اسم الجزء: 8)

بمَصَالِحِه، ففيه رِوَايَتانِ؛ إحداهما، يجوزُ إحْياؤُه. قال أحمدُ، في رِوَايةِ أبى الصَّقْرِ، في رَجُلَيْنِ أحْييَا قِطْعَتَيْنِ من مَوَاتٍ، وبَقِيَتْ بينهما رُقْعَةٌ، فجاءَ رَجُلٌ لِيُحْيِيَها، فليس لهما مَنْعُه. وقال في جَبَّانةٍ بين قَرْيَتَيْنِ: مَن أحْيَاها، فهى له. وهذا مذهبُ الشافِعِىِّ؛ لِعُمُوم قولِه عليه السلامُ: "مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيتَةً فَهِىَ لَهُ". ولأنَّ النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَقْطَعَ بِلَالَ بن الحارِثِ المُزَنِىِّ العَقِيقَ (١٦)، وهو يَعْلَمُ أنَّه بين عِمَارَةِ المَدِينَةِ. ولأنَّه مَوَاتٌ لم يَتَعَلَّقْ به (١٧) مَصْلَحَةُ العامِرِ، فجازَ إحْياؤُه، كالبَعِيدِ. والرواية الثانية، لا يجوزُ إحياؤُه. وبه قال أبو حنيفةَ، واللَّيْثُ؛ لأنَّه في مَظِنَّةِ تَعَلُّقِ المَصْلَحةِ به، فإنَّه يَحْتَمِلُ أن يَحْتاجَ إلى فَتْحِ بابٍ في حائِطِه إلى فِنَائِه، ويَجْعَلَه طَرِيقًا، أو يَخْرَبَ حائِطُه، فيَضَعَ آلاتِ البِنَاءِ في فِنَائِه، وغير ذلك، ولم يَجُزْ تَفْوِيتُ ذلك عليه، بخِلَافِ البَعِيدِ. إذا ثَبَتَ هذا، فإنَّه لا حَدَّ يَفْصِلُ بين القَرِيبِ والبَعيدِ سِوَى العُرْفِ. وقال اللَّيْثُ: حَدُّه غَلْوَةٌ، وهى خُمْسُ الفَرْسَخِ. وقال أبو حنيفةَ: حَدُّ البَعِيدِ هو الذي إذا وَقَفَ الرَّجُلُ في أدْنَاه، فصَاحَ بأعْلَى صَوْتِه، لم يَسْمَعْ أدْنَى أَهْلِ المِصْرِ إليه. ولَنا، أنَّ التَّحْدِيدَ لا يُعْرَفُ إلَّا بالتَّوْقِيفِ، ولا يُعْرَفُ بالرَّأْىِ والتَّحَكُّمِ، ولم يَرِدْ من الشَّرْعِ في ذلك (١٨) تَحْدِيدٌ، فوَجَبَ أن يُرْجَعَ في ذلك إلى العُرْفِ، كالقَبْضِ والإِحْرازِ. وقولُ مَن حَدَّدَ هذا تَحَكُّمٌ بغير دَلِيلٍ، وليس ذلك أوْلَى من تَحْدِيدِه بشيءٍ آخَرَ، كمِيلٍ ونِصْف مِيلٍ، ونحو ذلك. وهذا التَّحْدِيدُ الذي ذَكَرَاه - واللَّه أعلمُ - مُخْتَصٌ بما قَرُبَ من المِصْرِ أو القَرْيةِ، ولا يجوزُ أن يكونَ حَدًّا لكلِّ ما قَرُبَ من عامِرٍ، لأنَّه يُفْضِى إلى أنَّ من أحْيَا أرْضًا في مَوَاتٍ، حَرُمَ إحْياءُ شيءٍ من ذلك المَوَاتِ على غيرِه، ما لم يَخْرُجْ عن ذلك الحَدِّ.

فصل: وجَمِيعُ البِلَادِ فيما ذَكَرْناه سَوَاءٌ، المَفْتُوحُ عَنْوَةً كأرْضِ الشَّامِ
---------------
(١٦) انظر ما تقدم في: ٤/ ٢٤٠، ٢٤١. وما يأتى في صفحة ١٥٣.
(١٧) في الأصل زيادة: "حق".
(١٨) في ب، م: "لذلك".

الصفحة 150