كتاب المغني لابن قدامة ت التركي (اسم الجزء: 8)

فإنَّهما إن هَلَكَتْ ماشِيَتُهما رَجَعَا إلى نَخْلٍ وزَرْعٍ، وإنَّ هذا المِسْكِينَ إن هَلَكَتْ ماشِيَتُه، جاءَ يَصْرُخُ: يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ. فالكَلَأُ أهْوَنُ علىَّ أَم غُرْمُ الذَّهَبِ والوَرِقِ، إنَّها أرْضُهُم قاتَلُوا عليها في الجاهِلِيّةِ، وأسْلَمُوا عليها في الإِسْلامِ، وإنَّهم لَيَرَوْنَ أنَّا نَظْلِمُهُم، ولولا النَّعَمُ التي يُحْمَلُ عليها في سَبِيلِ اللَّه، ما حَمَيْتُ على الناسِ من بِلَادِهم شيئًا أبَدًا. وهذا إجْماعٌ منهم. ولأنَّ ما كان لِمَصَالِحِ المسلمينَ، قامَتِ الأئِمّةُ فيه مَقَامَ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقد رُوِىَ عن النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّه قال: "مَا أطْعَمَ اللهُ لِنَبِىٍّ طُعْمَةً إلَّا جَعَلَها طُعْمَةً لِمَنْ بَعْدَهُ" (٦٠). وأما الخَبَرُ فمَخْصُوصٌ، وأمَّا حِمَاهُ لِنَفْسِه، فيُفَارِقُ حِمَى النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِنَفْسِه، لأنَّ صَلَاحَه يَعُودُ إلى صَلَاحِ المسلِمين، ومالَه كان يَرُدُّه في المسلِمين، ففَارَقَ الأئِمّةَ في ذلك، وسَاوَوْهُ فيما كان صَلَاحَ المُسْلِمينَ، وليس لهم أن يَحْمُوا إلَّا قَدْرًا لا يُضَيّقُ (٦١) على المسلمين ويَضُرُّ بهم؛ لأنَّه إنَّما جازَ لما فيه من المَصْلَحةِ لما يَحْمى، وليس من المَصْلَحةِ إدْخَالُ الضَّرَرِ على أكْثَرِ الناسِ.

فصل: وما حَمَاهُ النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فليس لأحدٍ نَقْضُه، ولا تَغْيِيرُه، مع بَقَاءِ الحاجةِ إليه. ومن أحْيَا منه شيئا لم يَمْلِكْه. وإن زَالَتِ الحاجَةُ إليه، ففيه وَجْهانِ. وما حَمَاهُ غيرُه من الأئِمَّةِ، فغيَرهُ هو أو غيرُه من الأئِمّةِ، جازَ. وإن أحْيَاهُ إنْسَانٌ، مَلَكَه، في أحدِ الوَجْهَيْنِ؛ لأنَّ حِمَى الأئِمَّةِ اجْتِهادٌ، ومِلْكُ الأرْضِ بالإِحْياءِ نَصٌّ، والنَّصُّ يُقَدَّمُ على الاجْتِهادِ. والوَجْهُ الآخَرُ، لا يَمْلِكُه؛ لأنَّ اجْتِهادَ الإِمَامِ لا يجوزُ نَقْضُه، كما لا يجوزُ نَقْضُ حُكْمِه. ومذهبُ الشافِعِىِّ في هذا على نحوِ ما قُلْنَا.

فصل: في أحْكامِ المِيَاهِ، قد ذَكَرْنا في البَيْع حُكْمَ مِلْكِها وبَيْعِها، ونَذْكُرُ ههُنا حُكْمَ السَّقْىِ بها. فنقول: لا يَخْلُو الماءُ من حالَيْنِ؛ إمَّا أن يكونَ جارِيًا، أو واقِفًا، فإن كان جارِيًا فهو ضَرْبانِ؛ أحدهما، أن يكونَ في نَهْرٍ غيرِ مَمْلُوكٍ، وهو قِسْمَانِ؛
---------------
(٦٠) أخرجه أبو داود، في: باب صفايا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من الأموال، من كتاب الإمارة. سنن أبي داود ٢/ ١٣٠. والإِمام أحمد، في: المسند ١/ ٤.
(٦١) في ب، م زيادة: "به".

الصفحة 167