كتاب المغني لابن قدامة ت التركي (اسم الجزء: 8)

لمَّا كانت عادٌ في الزَّمَنِ الأَوَّلِ، وكانت لها آثارٌ في الأرْضِ، نُسِبَ إليها كلُّ قَدِيمٍ، فكلُّ مَن حَفَرَ بِئْرًا في مَوَاتٍ لِلتَّمْلِيكِ، فله حَرِيمُها خَمْسٌ وعِشْرُونَ ذِرَاعًا من كلِّ جانِبٍ. ومن سَبَقَ إلى بِئْرٍ عادِيَّةٍ، كان أحَقَّ بها؛ لقولِ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ سَبَقَ إلَى مَا لَمْ يَسْبِقْ إلَيْهِ مُسْلِمٌ، فهُوَ لَهُ" (١). وله حَرِيمُها خَمْسُونَ ذِرَاعًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ. نَصَّ أحمدُ على هذا، في رِوَايةِ حَرْبٍ، وعبدِ اللَّه. واخْتَارَهُ أكْثَرُ أصْحابِنَا. وقال القاضِى وأبو الخَطَّابِ: ليس هذا على طَرِيقِ التَّحْدِيدِ، بل حَرِيمُها على الحَقِيقَةِ ما تَحْتاجُ إليه في تَرْقِيَةِ مائِها منها، فإن كان بِدُولابٍ فقَدْرُ مَدارِ (٢) الثَّوْرِ أو غيرِه. وإن كان بِسَاقِيةٍ (٣) فبِقَدْرِ طُولِ البِئْرِ؛ لما رُوِىَ عن النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّه قال: "حَرِيمُ البِئْرِ مَدُّ رِشَائِها". أخْرَجَه ابنُ مَاجَه (٤). ولأنَّه المَكانُ الذي تَمْشِى إليه البَهِيمَةُ. وإن كان يَسْتَقِى منها بيَدِه، فبِقَدْرِ ما يَحْتاجُ إليه الواقِفُ عندها. وإن كان المُسْتَخْرَجُ عينًا، فحَرِيمُها القَدْرُ الذي يَحْتاجُ إليه صاحِبُها لِلانْتِفاعِ بها، ولا يَسْتَضِرُّ بأخْذه منها ولو على ألْفِ ذِرَاعٍ. وحَرِيمُ النَّهْرِ (٥) من جانِبَيْه ما يَحْتاجُ إليه لِطَرْحِ كِرَايَتِه بِحُكْمِ العُرْفِ في ذلك؛ لأنَّ هذا إنَّما ثَبَتَ لِلْحاجَةِ، فيَنْبَغِى أن تُرَاعَى فيه الحاجَةُ دون غيرِها. وقال أبو حنيفةَ: حَرِيمُ البئْرِ أرْبَعُونَ ذِرَاعًا، وحَرِيمُ العَيْنِ خَمْسُمائة ذِرَاعٍ؛ لأنَّ أبا هُرَيْرةَ رَوَى عن النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّه قال: "حَرِيمُ البِئْرِ أرْبَعُونَ ذِرَاعًا لِأعْطَانِ الْإِبِلِ والغَنَمِ". وعن الشَّعْبِىِّ مثلُه، رَوَاهُ أبو عُبَيْدٍ (٦). ولَنا، ما رَوَى الدَّارَقُطْنِىُّ (٧)
---------------
(١) تقدم تخريجه في صفحة ١٥٢.
(٢) في ب، م: "مد".
(٣) لعل ما في الأصل: "بسانية".
(٤) في: باب حريم البئر، من كتاب الرهون. سنن ابن ماجه ٢/ ٨٣١.
(٥) في ب، م: "البئر"، والمثبت في: الأصل، وهو يناسب "كرايته" الآتى، وهو ما يخرج من حفر النهر.
(٦) في: باب إحياء الأرض واحتجارها. . ., من كتاب الأموال. لأبي عبيد ٢٩١.
كما أخرجه الإِمام أحمد، في: المسند ٢/ ٤٩٤.
(٧) أخرجه الدارقطني، في كتاب الأقضية. سنن الدارقطني ٤/ ٢٢٠.

الصفحة 179