كتاب المغني لابن قدامة ت التركي (اسم الجزء: 8)

التِّرْمِذِىُّ: هذا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وأكْثَرُ أهْلِ العِلْمِ من السَّلَفِ ومَنْ بَعْدَهم على القَوْلِ بِصِحَّةِ الوَقْفِ. قال جابِرٌ: لم يكُنْ أحدٌ من أصْحابِ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ذو مَقْدِرَةٍ إلّا وَقَفَ. ولم يَرَ شُرَيْحٌ الوَقْفَ، وقال: لا حَبْسَ عن فرائِضِ اللهِ. قال أحمدُ: وهذا مذهبُ أهْلِ الكُوفَةِ. وذَهَبَ أبو حنيفةَ إلى أنَّ الوَقْفَ لا يَلْزَمُ بمُجَرَّدِه، ولِلْوَاقِفِ الرُّجُوعُ فيه، إلَّا أن يُوصِىَ به بعدَ مَوْتِه، فيَلْزَمُ، أو يَحْكُمَ بِلُزُومِه حاكِمٌ. وحَكَاهُ بعضُهم عن عَلىٍّ، وابنِ مسعودٍ، وابنِ عَبّاسٍ. وخَالَفَه صَاحِبَاه، فقالا كقَوْلِ سائِر أهْلِ العِلمِ. واحْتَجَّ بعضُهم بما رُوِىَ أنَّ عبدَ اللَّه بن زَيْدٍ، صَاحِبَ الأَذَانِ، جَعَلَ حائِطَه صَدَقَةً، وجَعَلَه إلى رسولِ اللهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فجاءَ أبَوَاه إلى رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقالا: يا رسولَ اللَّه، لم يكُنْ لنا عَيْشٌ إلّا هذا الحائِطَ. فرَدَّه رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثم ماتَا، فوَرِثَهُما. رَوَاهُ المحَامِلِىُّ (٤) في "أمَالِيهِ" (٥)، ولأنَّه أخْرَجَ مَالَه على وَجْهِ القُرْبةِ من مِلْكِه، فلم يَلْزَمْ بمُجَرَّدِ القَوْلِ، كالصَّدَقَةِ. وهذا القول يُخَالِفُ السُّنَّةَ الثابِتَةَ عن رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وإجْمَاعَ الصَّحَابةِ رَضِىَ اللَّه عنهم، فإنَّ النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال لِعُمَرَ في وَقْفِه: "لَا يُبَاعُ أصْلُهَا، ولا يُبْتَاعُ، ولَا يُوهَبُ، ولَا يُورَثُ". قال التِّرمِذِىُّ: العَمَلُ على هذا الحَدِيثِ عندَ أهْلِ العِلْمِ من أصْحابِ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وغيرِهم، لا نَعْلَمُ بين [أحَدٍ من] (٦) المُتَقَدِّمِينَ منهم في ذلك اخْتِلَافًا. قال الحُمَيْدِىُّ: تَصَدَّقَ أبو بكرٍ بِدَارِه على وَلَدِه، وعمرُ بِرَبْعِه عند المَرْوَةِ على وَلَدِه، وعثمانُ بِرُومَةَ (٧)، وتَصَدَّقَ عَلِىٌّ بأَرْضِه بِيَنْبُعَ، وتَصَدَّقَ الزُّبَيْرُ بِدَارِه بمَكَّة [ودَارِه بمِصْرَ وأمْوالِه بالمدِينَةِ] (٦) على وَلَدِه،
---------------
= ٣/ ١٢٥٥. وأبو داود، في: باب في ما جاء في الصدقة عن الميت، من كتاب الوصايا. سنن أبي داود ٢/ ١٠٦. والترمذي، في: باب في الوقف، من أبواب الأحكام. عارضة الأحوذى ٦/ ١٤٤. والنسائي، في: باب فضل الصدقة عن الميت، من كتاب الوصايا. المجتبى ٦/ ٢١٠. والإِمام أحمد، في: المسند ٢/ ٣٧٢.
(٤) أبو عبد اللَّه الحسين بن إسماعيل بن محمد الضبى المحاملى القاضي الفقيه، صاحب "الأمالى" المتوفى سنة ثلاثين وثلاثمائة. تاريخ التراث العربى ١/ ١/ ٣٥٧.
(٥) وذكره المزى وعزاه إلى النسائي في الكبرى. تحفة الأشراف ٤/ ٣٤٥.
(٦) سقط من: الأصل.
(٧) أي بئر رومة بالمدينة.

الصفحة 185