كتاب المغني لابن قدامة ت التركي (اسم الجزء: 8)

اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُوَفِّهِ أَجْرَهُ" (٦). والأخْبارُ في هذا كَثِيرَةٌ. وأجْمَعَ أهْلُ العِلْم في كلّ عَصْرٍ وكلِّ مِصْرٍ على جَوَازِ الإِجَارَةِ، إلَّا ما يُحْكَى عن عبدِ الرحمن بن الأَصَمِّ (٧) أنَّه قال: لا يجوزُ ذلك؛ لأنَّه غَرَرٌ. يَعْنى أنَّه يَعْقِدُ على مَنَافِعَ لم تُخْلَقْ. وهذا غَلَطٌ، لا يَمْنَعُ انْعِقَادَ الإِجْماعِ الذي سَبَقَ في الأَعْصارِ، وسارَ في الأمْصارِ، والعِبْرَةُ أيضًا دَالّةٌ عليها؛ فإنَّ الحاجَةَ إلى المَنَافِعِ كالحاجَةِ إلى الأعْيَانِ، فلمَّا جَازَ العَقْدُ على الأعْيانِ، وَجَبَ أن تجوزَ الإِجَارَةُ على المنَافِعِ، ولا يَخْفَى ما بالنَّاسِ من الحاجَةِ إلى ذلك، فإنَّه ليس لكلّ أحدٍ دَارٌ يَمْلِكُها، ولا يَقْدِرُ كلُّ مُسَافِرٍ على بَعِيرٍ أو دَابَّةٍ يَمْلِكُها، ولا يَلْزَمُ أصْحابَ (٨) الأمْلاكِ إسْكَانُهم وحَمْلُهُم تَطَوُّعًا، وكذلك أصْحَابُ الصَّنائِعِ يَعْمَلُونَ بأَجْرٍ، ولا يُمْكِنُ كلَّ أحدٍ عملُ ذلك، ولا يَجِدُ مُتَطَوِّعًا به، فلا بُدَّ من الإِجَارَةِ لذلك، بل ذلك ممَّا جَعَلَهُ اللَّه تعالى طَرِيقًا لِلرِّزْقِ، حتى إنَّ أكْثَرَ المَكاسِبِ بالصَّنائِعِ. وما ذَكَرَه من الغَرَرِ، لا يُلْتَفَتُ إليه، مع ما ذَكَرْنا من الحاجَةِ، فإنَّ العَقْدَ على المَنافِعِ لا يُمْكِنُ بعدَ وُجُودِها، لأنَّها تَتْلَفُ بمُضِىِّ السّاعاتِ، فلا بُدَّ من العَقْدِ عليها قبلَ وُجُودِها، كالسَّلَمِ في الأعْيانِ.

فصل: واشْتِقاقُ الإِجَارَةِ من الأجْرِ، وهو العِوَضُ، قال اللهُ تعالى: {لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} (٩). ومنه سُمِّىَ الثَّوَابُ أجْرًا؛ لأنَّ اللَّه تعالى يُعَوِّضُ العَبْدَ به على طاعَتِه، أو صَبْرِه على مُصِيبَتِه.
---------------
(٦) في: باب إثم من باع حرا، من كتاب البيوع، وفي: باب إثم من منع أجر الأجير، من كتاب الإِجارة. صحيح البخاري ٣/ ١٠٨، ١١٨.
كما أخرجه ابن ماجه، في: باب أجر الأجراء، من كتاب الرهون. سنن ابن ماجه ٢/ ٨١٦. والإِمام أحمد، في: المسند ٢/ ٣٥٨.
(٧) عبد الرحمن بن كيسان الأصم، أبو بكر شيخ المعتزلة، اشتهر بالكلام والأصول والفقه، توفى سنة إحدى ومائتين. سير أعلام النبلاء ٩/ ٤٠٢.
(٨) في الأصل: "صاحب".
(٩) سورة الكهف ٧٧.

الصفحة 6