كتاب المغني لابن قدامة ت التركي (اسم الجزء: 14)

قَضائِها، [فهَرَبَ إلى الشَّامِ، فأُريدَ على قَضائِها] (١٤)، وقيلَ: ليس هاهُنا غيرُك. قال: فأنْزِلوا الأمرَ على ما قُلتُم، فإنَّما مَثَلى مَثَلُ سابحٍ وَقعَ في البحرِ، فسبحَ يومَه، فانطلقَ، ثم سبحَ اليومَ الثَّاني، فمضَى أيضًا، فلمَّا كانَ اليومُ الثالثُ فَتَرتْ يَداهُ (١٥). وكانَ يُقالُ: أعْلمُ النَّاسِ بالقَضاءِ أشدُّهُم له كَراهَةً. ولعِظَمِ خَطرِه، قال النَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ جُعِلَ قَاضِيًا، فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ". قال الترمذيُّ: (١٦) هذا حديثٌ حسنٌ. وقيلَ في هذا الحديثِ: إنَّه لم يَخْرُجْ مَخْرَجَ الذَّمِّ للقضاءِ، وإنَّما وَصَفَه بالمشقَّةِ؛ فكأنَّ مَن وَلِيَهُ قد حُمِلَ على مشقَّةٍ، كَمَشَقَّةِ الذَّبحِ.

فصل: والنَّاسُ في القضاءِ على ثلاثةِ أضرُبٍ؛ منهم مَن لا يجوزُ له الدُّخولُ فيه، وهو من لا يُحسِنُه، ولم تجتَمعْ فيه شروطُه، فقد رُوِيَ عن النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أنَّه قال: "الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ" ذَكَرَ منهم رجلًا قضَى بينَ النَّاسِ بِجَهْلٍ، فهو في النارِ (١٧). ولأنَّ مَن لا يُحْسِنُه لا يَقْدِرُ على العَدْلِ فيه، فيأخذُ الحقَّ من مُستحقِّه ويَدْفَعُه إلى غيرِه. ومنهم، مَن يَجوزُ له، ولا يجبُ عليه، وهو مَن كان مِن أهْلِ العَدالَةِ والاجْتهادِ، ويُوجدُ غيرُه مثلُه، فله أنْ يَلِيَ القضاءَ بحُكمِ حالِه وصَلاحِيَتِه، ولا يجبُ عليه؛ لأنَّه لم (١٨) يتَعَيَّنْ له. وظاهرُ كلامِ أحمدَ، أنَّه لا يُسْتحبُّ له الدُّخولُ فيه؛ لِما فيه من الخطرِ والغَرَرِ، وفي تَرْكِه من السَّلامةِ، ولما ورَدَ فيه من التَّشْديد والذَّمِّ، ولأنَّ طريقةَ السَّلفِ الامْتِناعُ منه والتَّوقِّي، وقد
---------------
(١٤) سقط من: الأصل.
(١٥) ذكره ابن أبي شيبة، في: باب في القضاء وما جاء فيه، من كتاب البيوع. المصنف ٧/ ٢٣٨. والبيهقى، في: باب كراهية الإمارة. . .، من كتاب آداب القاضي. السنن الكبرى ١٠/ ٩٧. ووكيع، في أخبار القضاة ١/ ٢٣.
(١٦) في: باب ما جاء عن رسول اللَّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في القاضي، من أبواب الأحكام. عارضة الأحوذي ٦/ ٦٦، ٦٧.
كما أخرجه أبو داود، في: باب ما جاء في طلب القضاء، من كتاب الأقضية. سنن أبي داود ٢/ ٢٦٨. والحاكم، في: كتاب الأحكام. المستدرك ٤/ ٩١. والبيهقي، في: باب كراهية الإمارة. . .، من كتاب آداب القاضي. السنن الكبرى ١٠/ ٩٦.
(١٧) أخرجه أبو داود، في: باب في القاضي يخطىء، من كتاب الأقضية. سنن أبي داود ٢/ ٢٦٨. وابن ماجه، في: باب الحاكم يجتهد فيصيب الحق، من كتاب الأحكام. سنن ابن ماجه ٢/ ٧٧٦.
(١٨) في الأصل: "لا".

الصفحة 7