كتاب مجموع رسائل ابن رجب (اسم الجزء: 2)

فصل
إذا تبين هذا فقد عُلم أن العِلْم يستلزم الخشية من هذه الوجوه كلها لكن عَلَى الوجه الأول: يستلزم الخشية العِلْم بالله بجلاله وعظمته وهو الَّذِي فسر الآية به جماعة من السَّلف ما تقدم.
وعلى الوجوه الآخر: تكون الخشية ملازمة للعلم بأوامر الله ونواهيه وأحكامه وشرائعه وأسرار دينه وشرعه وخلقه وقدره، ولا تَنَافِيَ بين هذا العِلْم والعلم بالله، فإنهما قد يجتمعان وقد يتفرد أحدهما عن الآخر، وأكمل الأحوال اجتماعها جميعًا، وهي حالة الأنبياء عليهم السلام وخواص الصديقين، ومتى اجتمعا كانت الخشية حاصلة من تلك الوجوه كلها، وإن انفرد أحدها حصل من الخشية بحيث ما حصل من ذلك العِلْم، والعلماء الكُمَّل أولو العِلْم في الحقيقة الذين جمعوا الأمرين وقد ذكر الحافظ أبو أحمد بن عدي، ثنا أحمد بن عبد الله بن صالح بن شيخ بن عميرة ثنا إسحاق بن بهلول قال: قال لي إسحاق بن الطباع قال لي سفيان بن عيينة: "عَالِمٌ بالله عَالِمٌ بالعلم، عَالِمٌ بالله ليس بعالمٍ بالعلم، عالمٌ بالعلم ليس بعالمٍ بالله".
قال: قلت لإسحاق: فهمنيه واشرحه لي، قال: عالمٌ بالله عَالِمٌ بالعلم حماد بن سلمة، عالمٌ بالله {ليس} بعالمٍ بالعلم مثل أبي الحاج العابد، عَالِمٌ بالعلم {ليس} بعالمٍ بالله فلان وفلان وذكر بعض الفقهاء.
وروى الثوري، عن أبي حيان التيمي سعيد بن حيان، عن رجل قال: كان يقال: العُلَمَاء ثلاثة: فعالمٌ بالله ليس عالماً بأمر الله، وعالم بأمر الله ليس عالماً بالله، وعالمٌ بالله عَالِمٌ بأمر الله. فالعالم بالله وبأوامر الله: الَّذِي يخشى الله ويعلم الحدود والفرائض، والعالم بالله ليس بعالمٍ بأمر الله: الَّذِي يخشى الله ولا يعلم الحدود والفرائض، والعالم بأمر الله ليس بعالمٍ بالله: الَّذِي يعلم الحدود والفرائض ولا يخشى الله عز وجل.

الصفحة 808