كتاب مجموع رسائل ابن رجب (اسم الجزء: 3)

بخلاف ذلك، ولا يتمنى الموت؛ بل يستعظمه حتى يكاد يتصدع قلبه من ذكره.
وقد نازع أبو سليمان الداراني: من كان يتمنى الموت شوقًا إِلَى لقاء الله، وخالفهم في ذلك وقال: لو أعلم أن الأمر كما تقولون لأحببت أن نفسي تخرج الساعة، ولكن كيف بانقطاع الطاعة والحبس في البرزخ؟ وإنَّما نلقاه بعد البعث".
وقال أحمد بن أبي الحواري: "فهو في الدُّنْيَا أحرى أن نلقاه -يعني: بالذكر".
فأبو سليمان وصاحبه أحمد بن أبي الحواري -رحمهما الله تعالى- يقولان: ما يجده العارفون المحبون في الدُّنْيَا من حلاوة الطاعة ولذة المعاملة واستنارة القلوب وتقربها من علام الغيوب أكمل مما يحصل لهم في البرزخ قبل البعث، فإنَّه لا يمكن رؤية الله -تعالى- بالأبصار إلا في يوم القيامة.
وقد جاء في حديث: "إن يوم القيامة أول يوم نظرت فيه عين إِلَى الله - عز وجل".
وأما الأولون فإنهم يخالفون في ذلك ويَقُولُونَ قد يحصل للمحبين في البرزخ اتصال وقرب من الله -سبحانه- ورؤية للأرواح، فيكون ذلك أكمل من الحاصل لهم في الدُّنْيَا بالعمل؛ كما أن نعيم البرزخ بالمخلوقات من الجنة أكمل من نعيم الدُّنْيَا أيضاً، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلم: "اعلموا أنكم لن تروا ريكم حتى تموتوا" (¬1).
وهذا يدل بمفهومه عَلَى أن (رؤيته) (¬2) سبحانه تحصل بعد الموت.
وقد روى في ذلك من المبشرات الأحلامية قديمًا وحديثًا ما يطول ذكره؛ و [قد] (¬3) اتفق العارفون كلهم عَلَى أن ما يحصل بعد البعث للعارفين المحبين أكمل
¬__________
(¬1) أخرجه مسلم (2931) بنحوه من حديث عمر بن ثابت الأنصاري، عن بعض أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم.
وأخرجه أحمد (5/ 324) من حديث عبادة بن الصامت
وأخرجه ابن ماجه (4077) من حديث أبي أمامة الباهلي.
وأخرجه ابن أبي عاصم في "السنة" (431) من حديث معاوية.
(¬2) في المطبوع: "رؤية الله".
(¬3) من المطبوع.

الصفحة 355