كتاب مجموع رسائل ابن رجب (اسم الجزء: 4)

"إن ذاك قلبها".
يعني: أن الكبر في قلبها وإن كان لباسها لباس المساكين.
وقال الحسن: إن قومًا جعلوا التواضع في لباسهم والكبر في صدورهم، إن أحدهم أشد كبرًا بمدرعته من صاحب السرير بسريره، وصاحب المنبر بمنبره. قال أحمد بن أبي الحواري: قال لي سليمان بن أبي سليمان -وكان يُعدلُ بأبيه: أي شيء أرداو بثياب الصوف؟.
قلت: التواضع. قال: وما يتكبر أحدهم إلا إذا لبس الصوف".
وقال أبو سليمان: يكون ظاهرك قطنيًّا وباطنك صوفيًّا.
قال أبو الحسن بن بشار: صوَّف قلبك، والبس القوهي عَلَى القوهي.
يعني: رفيع الثياب.
فمتى أظهر الإنسان لباس المساكين لدعوى الصلاح ليشتهر بذلك عند الناس كان ذلك كبرًا ورياء، ومن هنا ترك كثير من السَّلف المخلصين اللباس المختص بالفقراء والصالحين، وقالوا: إنه شهرة.
ولما قدم سيّار أبو الحكم البصرة لزيارة مالك بن دينار لبس ثيابًا حسنة ثم دخل المسجد فصلى صلاة حسنة، فرآه مالك -ولم يعرفه- فَقَالَ له: يا شيخ! إني أرغب بك عن هذه الثياب مع هذه الصلاة.
فَقَالَ له: يا مالك! ثيابي هذه تضعني عندك أم ترفعُني؟!
قال: بل تضعك. فَقَالَ: نعم الثوب ثوب يضع صاحبه عند الناس، ولكن انظر يا مالك لعل ثوبيك هذين -يعني: الصوف- أنزلاك عند الناس ما لم يُنزلاك من الله.
فبكى مالك وقام إِلَيْهِ واعتنقه، وقال له: أنشدك الله أنت سيار أبو الحكم؟ قال: نعم.
فلهذا كَرِه من كَرِه من السَّلف كابن سيرين وغيره لباس الصوف حيث صار شعار الزاهدين، فيكون لباسه إشهارًا للنفس، وإظهارًا للزهد، وأما النبي صلّى الله عليه وسلم

الصفحة 68