كتاب مجموع رسائل ابن رجب (اسم الجزء: 4)

فكان يلبس ما وجد، فتارة يلبس لباس الأغنياء من حلل اليمن وثياب الشام ونحوها، وتارة يلبس لباس المساكين فيلبس جُبَّة من صوف أحيانًا، وأحيانًا يتزر بعباءة ويهنأ إبل الصدقة بيده، يعني أنَّه يطليها بيده ويُصلحها كما يفعل أرباب الإبل بها.
ولم يبعث الله نبيًّا من أهل الكبر، وإنَّما بعث من لا كبر عنده، ولا يتكبر عن معالجة الأشياء التي يأنف منها المتكبرون كرعاية الإبل (والغنم) (*)، وإجارة نفسه (¬1) عند الحاجة إِلَى الاكتساب: ومن أعطاه الله منهم مُلكًا فإنَّه يزداد به تواضعا لله عز وجل كداود وسليمان ومحمد صلّى الله عليه وسلم.
وقد يطلق اسم المسكين ويُراد به من استكان قلبه لله، وانكسر له وتواضع لجلاله وكبريائه وعظمته وخشيته ومحبته ومهابته.
وعلى هذا المعنى حمل بعضهم الحديث المروي عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنَّه قال: "اللهم أحييني مسكينًا، وأمتني مسكينًا، واحشرني في زمرة المساكين" خرَّجه الترمذي من حديث أنس (¬2)، وخرّجه ابن ماجه من حديث ابن عباس (¬3).
وفي حمله عَلَى ذلك نظرٌ لأنّ في تمام حديثيهما ما يدل عَلَى أن المراد به المساكين من المال؛ لأنّه ذكر سَبْقَهُم الأغنياء إِلَى الجنة، مع أن في إسناد الحديثين ضعفًا.
وقد خُيِّر النبي صلّى الله عليه وسلم بين أن يكون نبيًّا ملكًا أو عبدًا رسولاً، فأشار إِلَيْهِ جبريل أن تواضع. فَقَالَ: بل عبدًا رسولاً. وكان بعد ذلك لا يأكل متكئًا، ويقول:
¬__________
(*) والبقر: "نسخة".
(¬1) أي: اشتغاله أجيرًا للآخرين.
(¬2) برقم (2352) وقال الترمذي: هذا حديث غريب.
(¬3) وهم المصنف رحمه الله في عزو الحديث لابن عباس عند ابن ماجه فقد أخرجه ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري برقم (4126). قال البوصيري في مصباح الزجاجة: هذا إسناد ضعيف، أبو المبارك لا يعرف اسمه وهو مجهول، ويزيد بن سنان التميمي أبو فروة ضعيف.

الصفحة 69