كتاب مجموعة الرسائل والمسائل لابن تيمية - رشيد رضا (اسم الجزء: 5)

يستلزم الحوادث كلها أو واحداً منها في الأزل، فيمتنع وجود الحوادث المتعاقبة كلها في آن واحد سواء قدر ذلك الآن ماضياً أو مسقبلاً، فضلاً عن أن يكون أزلياً، وما يستلزم الحوادث المتعاقبة يمتنع وجود في آن واحد فضلاً عن أن يكون أزلياً، فليس هذا ممكن الوجود فضلاً عن أن يكون كمالاً، لكن فعل الحوادث شيئاً بعد شيء أكمل من التعطيل عن فعلها بحيث لا يحدث شيئاً بعد أن لم يكن، فإن الفاعل القادر على الفعل أكمل الفاعل العاجز عن الفعل. فإذا قيل لا يمكنه إحداث الحوادث بل مفعوله لازم لذاته، كان هذا نقصاً بالنسبة إلى القادر الذي يفعل شيئاً بعد شيء، وكذلك إذا قيل: جعل الشيء الواحد متحركاً ساكناً موجوداً معدوماً صفة كمال، قيل هذا ممتنع لذاته. وكذلك إذا قيل إبداع قديم واجب بنفسه صفة كمال، قيل هذا ممتنع لنفسه، فإن كونه مبدعاً يقتضي أن لا يكون واجباً بنفسه بل واجباً بغيره، فإذا قيل هو واجب موجود بنفسه وهو لم يوجد إلا بغيره كان هذا جمعاً بين النقيضين. وكذلك إذا قيل: الأفعال القائمة والمفعولات المنفصلة عنه إذا كان اتصافه بها صفة كما فقد فاتته في الأزل، وإن كان صفة نقص فقد لزم اتصافه بالنقائص. قيل الأفعال المنفعلة بمشيئته وقدرته يمتنع أن يكون كل منها أزلياً. وأيضاً فلا يلزم أن يكون وجود هذه في الأزل صفة كمال بل الكمال أن توجد حيث اقتضت الحكمة وجودها، وأيضاً فلو كانت أزلية لم تكن موجودة شيئاً بعد شيء، فقول القائل فيما حقه أن يوجد شيئاً بعد شيء فينبغي أن يكون في الأزل جمع بين النقيضين. وأمثال هذا كثير، فلهذا قلنا الكمال الممكن الوجود، فما هو ممتنع في نفسه فلا حقيقة له فضلاً عن أن يقال هو موجود أو يقال هو كمال للموجود. وأما الشرك الآخر وهو قولنا الكمال الذي لا يتضمن نقصاً على التعبير بالعبارة السديدة أو الكمال الذي لا يتضمن نقصاً يمكن انتفاؤه على عبارة من يجعل ما ليس بنقص نقصاً - فاحتراز عما هو لبعض المخلوقات كمال دون بعض، وهو نقص بالإضافة إلى الخالق لاستلزامه نقصاً كالأكل والشرب مثلاً، فإن الصحيح الذي يشتهي الأكل والشرب من الحيوان أكمل من المريض الذي لا يشتهي الأكل

الصفحة 56