كتاب المسالك في شرح موطأ مالك (اسم الجزء: 2)

قال الإمام الحافظ (¬1): وقد طال بحثي عن هذه المسألة وإتعاب خاطري فيها، حتّى مَرَّ بي رجلٌ في بعض أسفاري من أهل العِلم واللغة، كبير مشهورٌ، فقال لي: إنَّ الباء في قوله: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} (¬2) جاءت لفائدة، وذلك أنّ المسح يقتضي ممسوحًا وممسوحًا به، والممسوح به قد يكون آلة لاتِّصال الفعل كاليد، وقد يكون محصّلًا لمقصود المسح كالمنديل (¬3)، فإذا تقرَّرَ هذا، فالمعنى كما تقدَّمَ. فلو قال البارئ سبحانه وتعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} (¬4) بإسقاط الباء، لأجزأَ المسح باليد مرورًا على الرّأس من غير ماء ولا شيءٍ، فدخلتِ الباءُ لتُفيدَ ممسوحًا به وهو الماء. فكأنّه قال سبحانه: "وامسحوا برءوسِكُم الماءَ" وهذا من باب القلب الفصيح في اللغة المستعمل في العادة، خصوصًا في المسح، قال الشاعر (¬5):
وَمَسَحَت باللِّثتَيْنِ عَصْفَ الإِثْمِدِ
واللَّثَّةُ هي الممسوحة بعَصْفِ الإِثمِد، فقلَب، ولكن المعنى ظاهر والفصاحة قائمة.
تكملة:
قال الشّيخُ أبو محمد (¬6) - رضي الله عنه -: "اختلف في معنى قوله: "بَدَأَ بمُقَدَّمِ رَأسِهِ"؟ فقيل: إنّه بدأ من حدِّ منابت الشَّعر.
وقيل: بَدأَ بنَاصِيَّتِهِ.
وكلُّ واسعٌ، والأوَّلُ أصْوَب (¬7)، وقد روى أشهب عن مالكٌ؛ أنَّه يبدأ من حدِّ منابتِ الشَّعر".
¬__________
(¬1) هذا هو الجواب الثاني كما في القبس.
(¬2) المائدة: 6، وانظر أحكام القرآن: 2/ 571.
(¬3) في أحكام القرآن: "والمحصل للمقصود من المسح، وهو المنديل، وهذا ظاهرٌ لا خفاء به".
(¬4) المائدة: 6.
(¬5) هو خفاف بن ندبة، في ديوانه: 514، وشطر البيت الأوّل: "كنواحٍ ريش حمامةٍ نجديّةٍ".
(¬6) يعني ابن أبي زيد القيرواني في النَّوادر والزِّيادات: 1/ 39
(¬7) في النّوادر: "والأوّلُ أوْلى".

الصفحة 20